رد البلاء بالاستغفار ٥
رد البلاء بالاستغفار
المقدمة
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوبة، ومكفر السيئات، يفرح
لتوبة عباده أشد ما يفرح أحدنا إذا وجد ضالته .. وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله
عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .. أما بعد:
الإنسان في هذه الحياة له غاية يسعى إليها ويتجه نحوها وقد
علمَّنا ربنا - سبحانه- أن الإنسان يجب أن تكون غايته - الله-
يتجه إليه - سبحانه - ويسعى للوصول إليه عن طريق الكمال
الذي يتحلَّى به حتى تسمو نفسه وتتهذب مداركه .. يقول الله -
١). وفرار الإنسان ) َففِرُّوا ِإَلى اللَّهِ ِإنِّي َل ُ كمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ : تعالى
إلى الله يكون بذكر الله والاستغفار والتضرع إليه بما علمنا في كتابه
وعلى ألسنة رسله وأنبيائه الهداة المصلحين، ونظرا لأن في الآخرة
ثوابا وعقابا فعلى الإنسان أن يفر من معصية الله إلى طاعته؛ ليفوز
بثواب الله وينجو من عقابه في بوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من
أتى الله بقلب سليم.
أخي القارئ .. المعاصي قد تكثَّرت والذنوب قد توفَّرت،
والشيطان اللعين مشغول فيما قال أمام رب العالمين بالحلف الأكيد:
،(٢) َفِبعِزَّتِكَ َلأُغْ ِ ويَنَّهُمْ َأجْمَعِينَ * ِإلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ اْلمُخَْلصِ ينَ
. ١) سورة الذاريات آية ٥٠ )
.٨٣- ٢) سورة ص: ٨٢ )
٦ رد البلاء بالاستغفار
ففعل فعلته التي فعل من أمام وخلف ومن يمين وشمال حتى أضل منَّا
َ ظهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْ ِ ر ِبمَا َ كسَبَتْ َأيْدِي : جبلًّا كثيرا
.(١) النَّا ِ س
فالواجب على العبد المؤمن أن لا يعصي ربه تعالى طرفة عين،
ولو عصى بما استذله الشيطان أو أمرته نفسه الأمارة بالسوء
بالعصيان، فإنه لا يقنط من رحمة الله ولا ييأس من مغفرة مهما
عصى وازداد في الإثم، ويبادر إلى التوبة والاستغفار وتجهيزها
للموت والاستعداد له.
أخي المسلم: إن علامة الاهتداء إلى الطريق القويم السليم، تقديم
العمل الصالح، وهو ما كان خالصا لله تعالى، ومجرد الإيمان وإن
كان يمنع المؤمن الخلود في النار ويدخله الجنة، لكن العمل يزيد نور
الإيمان، وبه يتنور قلب المؤمن، فنور قلبك ووجهك بالطاعة والعمل
الصالح.
قال موسى –عليه السلام- يا رب أي عبادك أعجز؟ قال :
الذي يطلب الجنة بلا عمل، قال: وأي عبادك أبخل؟ قال: الذي
سأله سائل وهو يقدر على إطعامه ولم يطعمه.
فإن الله عز وجل أمر عباده بالتوبة والاستغفار وسمَّى ووصف
نفسه بالغفار والغفور وغافر الذنب. وأثنى على المستغفرين
ووعدهم بجزيل الثواب، ويرضى عن المستغفر الصادق؛ فالاستغفار
هو الدواء الناجع والعلاج الناجح من الذنوب والخطايا .. قال
. ١) سورة الروم: ٤١ )
رد البلاء بالاستغفار ٧
وَْلتَنْ ُ ظرْ نَفْسٌ مَا َقدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَُّقوا اللَّهَ ِإنَّ اللَّهَ خَِبيرٌ ِبمَا : تعالى
١). إذًا أي شيء قدمت من الأعمال ليوم القيامة؟ ) تَعْمَُلو َ ن
فيما يرويه أبي هريرة –رضي الله عنه : قال رسول الله
والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم ولجاء بقوم »
كل » : وقال في موضع آخر .« يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم
.« بيني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون
وإن كثير من الناس يعتقدون أن الاستغفار يكون باللسان يقول
أحدهم: "استغفر الله"، ثم لا يوجد لهذه الكلمات أثر في القلب
كما لا يُشاهد لها تأثير على الجوارح ومثل هذا الاستغفار في
الحقيقة فعل الكذَّابين قال الفضيل بن عياض –رضي الله عنه :
"استغفار بلا إقلاع عن الذنب توبة الكذَّابين".
جعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم
ارحمنا إذا عرق الجبين و َ كُثر الأنين، وبكى علينا الحبيب ويئس منا
الطبيب .. اللهم ارحمنا إذا وارانا التراب، وودعنا الأحباب، وفارقنا
النعيم. اللهم يا حي يا رحمن يا رحيم برحمتك نستعين، وصلِّ اللهم
وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
. ١) سورة الروم: ٤١ )
٨ رد البلاء بالاستغفار
الاستغفار في اللغة والاصطلاح
لغة: الاستغفار مصدر قولهم: استغفر يستغفر وهو مأخوذ من
مادة (غ ف ر) التي تدل على الستر في الغالب الأعم فالغفر الستر،
والغفر والغفران بمعنى واحد يقال: غفر الله ذنبه غفرا ومغفرة
وغفرانا، قال الشاعر في الغفر:
في ظل من عنت الوجوه له ملك الملوك ومالك الغفر
وقال ابن منظور: وإنك أنت الغفور الغفار يا أهل المغفرة.
غفر الله ذنوبه أي سترها واستغفر الله من ذنبه ولذنبه بمعنى،
فغفر له ذنبه مغفرة وغفرا وغفرانا.
وفي الحديث: غفَّار غفر الله لها: قال ابن الأثير : يحتمل أن
يكون دعاء لها بالمغفرة أو إخبار أن الله تعالى قد غفر لها، واستغفر
الله ذنبه على حذف الحرف، طلب منه غفره.
أنشد سيبويه:
استغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه القول
وتغافرا: دعا كل واحد منهما لصاحبه بالمغفرة. وامرأة غفور،
بغير هاءٍ( ١). وقال الراغب الأصفهاني: الغفر: إلباس ما يصونه عند
الدنس ومنه قيل: أغفر ثوبك في الدعاء واصبغ ثوبك فإنه اغفر
للوسخ، والغفران والمغفرة من الله أن يصون العبد من أن يمسه
العذاب، والاستغفار طلب ذلك بالمقال والفعال، وقيل: اغفروا الأمر
.٢٦-٢٥/ ١) لسان العرب ( ٥ )
رد البلاء بالاستغفار ٩
.( بغفرته، أي استروه بما يجب أن يستر به( ١
وقال الإمام الغزالي - رحمه الله - الغفار: هو الذي يظهر الجميل
ويستر القبيح، والذنوب من جملة القبائح التي سترها الله بإسبال الستر
عليها في الدنيا، والتجاوز عن عقوبتها في الآخرة، والغفر هو الستر.
الغفور والغفار وغافر الذنب من أسماء الله تعالى الحسنى التي تُضَم
إلى التسعة والتسعين أسما.
* * *
.( ١) المفردات في غريب القرآن للأصفهاني ( ٣٦٢ )
١٠ رد البلاء بالاستغفار
أما الاستغفار في الاصطلاح الشرعي:
تنوعت عبارات العلماء في تعريف الاستغفار، وتعددت كلماﺗﻬم
فيه، وكلها ﺗﻬدف إلى الكشف عن حقيقة وبيان معناه الشرعي
فالاستغفار من طلب الغفران، والغفران: تغطية الذنب بالعفو عنه،
الغفر الستر، ومنها قال الطبري –رحمه الله- "الاستغفار معناه: طلب
العبد من ربه غفران ذنوبه"( ١) لكن يرد على هذا التعريف أنه لم يبين
الأدعية التي يطلب ﺑﻬا الغفران، فتعريفه هذا تعريف مطلق، ف أي
أو غير استغفار دعا به المستغفر سواءً كان مأثورًا عن الله ورسوله
مأثور عنهما فإن هذا التعريف يشمله.
وقال أهل الكلام: "الاستغفار طلب المغفرة بعد رؤية قبح
المعصية، والإعراض عنها".
وعرفه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "الاستغفار هو طلب
المغفرة، وهو من جنس الدعاء، والسؤال، وهو مقرون بالتوبة في
الغالب، ومأمور به، لكن قد يتوب الإنسان ولا يدعو، وقد يدعو ولا
.( يتوب"( ٢
والاستغفار في القرآن الكريم على وجهين : أحدهم ا نفس
٣). وفي سورة ) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّ ُ كمْ : الاستغفار، ومنه في سورة هو
.٦٨/ ١) تفسير الطبري ٢٦ )
.١٨١- ١٨٠ / ٢) منهاج السنة النبوية لابن تيمية: ٢ )
. ٣) سورة هود: ٩٠ )
رد البلاء بالاستغفار ١١
اسْتَغْفِرُوا : ١). وفي سورة نوح ) وَاسْتَغْفِ ِ ري لِ َ ذنِْبكِ : يوسف
.(٢) رَبَّ ُ كمْ
وَاْلمُسْتَغْفِ ِ رينَ : والثاني: الصلاة ومنه سورة آل عمران
٤)، وفي ) وَهُمْ يَسْتَغْفِرُو َ ن : ٣). وفي سورة الأنفال ) ِباْلَأسْحَا ِ ر
٥)، وقد ذهب إلى ) وَِبالْأَسْحَا ِ ر هُمْ يَسْتَغْفِرُو َ ن : سورة الذاريات
.( أن الآية التي في سورة هود والتي في سورة نوح بمعنى التوحيد( ٦
( تعبير الاستغفار في الرؤية( ٧
استغفار الإنسان في المنام يدل على سعة الرزق، ومن استغفر من
غير صلاة يدل ذلك على الزيادة في العمر، وربما دل الاستغفار على
النصر ودفع البلايا، ومن رأى أنه يستغفر الله فإن الله يغفر له ويرزقه
مالا وولدا وخادما وجنانا وأﻧﻬارا. فإذا رأى أنه سكت عن الاستغفار
فإنه منافق ومن رأى كأنه يستغفر الله تعالى رُزق مالا حلالا وولدا.
فإن رأى كأنه فرغ من الصلاة ثم استغفر الله تعالى ووجهه إلى القبلة
فإنه يستجاب وعاؤه، وإن كان إلى غير القبلة يذنب ذنب ا ويت وب
عنه.. والله أعلم.
. ١) سورة يوسف: ٢٩ )
. ٢) سورة نوح: ١٠ )
. ٣) سورة آل عمران: ١٧ )
. ٤) سورة الأنفال: ٣٣ )
. ٥) سورة الداريات: ١٨ )
٦) سورة ق، والقرآن اﻟﻤﺠيد، ص ٨٤٥ ، مدينة الطيبات العالمية للعلوم والمعرفة، جدة. )
٢٩ ، دار المعرفة - ٧) تعطير الأنام في تعبير المنام، الشيخ عبد الغني النابلسي، ص ٢٨ )
بيروت.
١٢ رد البلاء بالاستغفار
( الاستغفار في البيان الإلهي( ١
أمر الله –عز وجل- عباده بالاستغفار وحثهم عليه ووعدهم
على ذلك بالمغفرة والثواب العظيم، والعطاء الجزيل، ومن أصدق من
الله قيلا نذكر منها ما يلي:
غَافِ ِ ر الذَّنْ ِ ب وَقَاِب ِ ل التَّوْ ِ ب شَدِيدِ اْلعَِقا ِ ب ذِي : * قال تعالى
.(٢) الطَّوْ ِ ل َلا ِإَلهَ ِإلَّا هُوَ ِإَليْهِ الْمَصِيرُ
الشرح:
الله غافر ذنوب المستغفرين، وقابل توبة التائبين، الذي يرحم
المنيبين، وهو شديد العقاب على من تجاوز حدوده واستهان بأمره
وأصر على ذنبه، وهو صاحب التفضل على العباد وصاحب الإنعام
على الخليقة، لا معبود بحق سواه ولا إله غيره، ولا شريك له، إليه
يعود الخلق لإحقاق الحق ومجازاة كل بما يستحق.
َفاصِْبرْ ِإنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِ َ ذنِْبكَ : * وقال تعالى
.(٣) وَسَبِّحْ ِبحَمْدِ رَبِّكَ ِبالْعَشِيِّ وَاْلِإبْ َ كا ِ ر
١) الشروح مقتبسة من كتاب التفسير الميسر للشيخ عائض القرني، مكتبة العبيكان، )
الرياض.
. ٢) سورة غافر: ٣ )
. ٣) سورة غافر: ٥٥ )
رد البلاء بالاستغفار ١٣
الشرح:
أيها الرسول أصبر على تكذيب الكفار وأذى الفجار، فإن الله
وعدك بالنصر والتمكين والرفعة، وهو –سبحانه- لا يخلف ما وعد،
بل يُنجزه لك وقد حصل هذا، وعليك بالاستغفار من الذنوب،
فبالاستغفار تنال رضى الواحد القهار وتنجو من الأخطار، ونزِّه ربك
ومجِّده بالتسبيح الذي تنفي فيه النقص عن الله المقرون بالحمد الذي
هو إثبات الكمال له سبحانه في كل مساء وكل صباح.
َفاعَْلمْ َأنَّهُ َلا ِإَلهَ ِإلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِ َ ذنِْبكَ : * وقال تعالى
.(١) وَلِلْمُؤْمِِنينَ وَاْلمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعَْلمُ مُتََقلَّبَكُمْ وَمَْثوَا ُ كمْ
الشرح:
فاعلم –أيها الرسول- أنه لا يستحق العبادة إلا الله، وأنه لا
شريك له، واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات، والله يعلم
حركتكم بالنهار في الأعمال، واستقراركم بالليل للراحة من
الأشغال، وفي الآية الجمع بين التوحيد والاستغفار والعلم والعمل.
وَسَا ِ رعُوا ِإَلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّ ُ كمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا : * وقال تعالى
.(٢) السَّمَوَاتُ وَاْلَأرْضُ ُأعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
. ١) سورة محمد: ١٩ )
. ٢) سورة آل عمران: ١٣٣ )
١٤ رد البلاء بالاستغفار
الشرح:
بادروا –أيها المؤمنون- وعجلوا- أيها المتقون- ما يوجب لكم
مغفرة ربكم وما تستحقون به دخول جنة مولاكم إلى جنة عرضه ا
عرض السموات والأرض، والفوز برضوانه ونيل النعيم الذي أعده
لأوليائه، وذلك بفعل الطاعات وترك المحرمات، فإن من عمل صالحا
وأكل حلالا وقال خيرا، وأمر بالمعروف وﻧﻬى عن المنكر وسابق في
الخيرات استحق أن يتجاوز الله –عز وجل- عن سيئاته، وأن يُعظم
حسناته، ويرفع درجاته في جناته.
وَالَّذِينَ ِإ َ ذا َفعَلُوا فَاحِشًَة َأوْ َ ظَلمُوا َأنُْفسَهُمْ : * وقال تعالى
َ ذ َ كرُوا اللَّهَ فَاسْتَغَْفرُوا لِ ُ ذنُوِب ِ همْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ ِإلَّا اللَّهُ وََلمْ
.(١) يُصِرُّوا عََلى مَا َفعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُو َ ن
الشرح:
ومن صفات هؤلاء المتقين أﻧﻬم إذا ارتكبوا كبيرة أو اقترفو ا
جريرة وظلموا أنفسهم باعتدائهم على غيرهم، عادو ا إلى رﺑﻬم
سبحانه فتذكروا عقابه وما أعد لمن عصاه فاستغفروا الله من الخطيئة،
وسألوه المغفرة، وندموا على ما فعلوا، وتأسفوا عمَّا اقترفوا، وعلموا
أنه لا يغفر الذنب، ولا يتجاوز عن الخطأ، ولا يعفو عن السيئة إلا الله
الواحد الأحد، ولم يداوموا على هذه المعاصي، ولا يَلِجوا في الخطأ،
. ١) سورة آل عمران: ١٣٥ )
رد البلاء بالاستغفار ١٥
ولا يستمروا على الذنب، ولا ينهمكوا في الإجرام، بل أصبح عندهم
من القلق والاضطراب والأسف والندم على ما فعلوا م ا يوجب
معرفتهم بقبح الذنب، ويعلمهم أنه يجب عليهم التوبة، ويعلمهم أن
الله يغفر الذنوب جميعا، فيحملهم ذلك على التوبة والاستغفار
والمبادرة إلى طلب العفو من العزيز الغفار.
.(١) وَاسْتَغْفِ ِ ر اللَّهَ ِإنَّ اللَّهَ كَا َ ن َ غُفورًا رَحِيمًا : * وقال تعالى
الشرح:
وعليك أن تستغفر ربك إن كنت هممت أن تُدافع عن خائن أو
تجادل عن منافق، فإن الله –سبحانه وتعالى- يتجاوز عن خطئك،
ويغفر لك ويرحمك، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر، وفيه
أن من وقع منه مثل هذه النية، فعليه أن يستغفر ربه ويتوب إليه جل
في علاه.
وَمَنْ يَعْمَ ْ ل سُوءًا َأوْ يَ ْ ظلِمْ نَفْسَهُ ُثمَّ يَسْتَغْفِ ِ ر : * وقال تعالى
.(٢) اللَّهَ يَ ِ جدِ اللَّهَ َ غُفورًا رَحِيمًا
الشرح:
ولكن المسلم إذا وقع منه السوء وظلم نفسه بارتكاب معصية،
. ١) سورة النساء: ١٠٦ )
. ٢) سورة النساء: ١١٠ )
١٦ رد البلاء بالاستغفار
ثم ندم واستغفر وأناب وتأسف على ما فعل وعاد إلى ربه بطلبه
الغفران منه يجد ربه كريما، فإن الله أكرم من العبد، رحيم يتجاوز عنه
ويقابل الإساءة بالإحسان، والمعصية بالغفران، ويتغمده بالرضوان،
ويسكنه الجنان، فلا أحسن من التوبة إلى الله، ولا من استغفاره جل
في علاه. والآيات في الاستغفار كثيرة ومعروفة فقط أوردنا بعض
الآيات مع الشرح.
الاستغفار في البيان النبوي
ومن الأحاديث الواردة في الاستغفار حيث كان الرسول
يستغفر ربه ويتوب إليه ويتضرع بين يديه امتثالا لأمر الغفار –عز
.(١) َفسَبِّحْ ِبحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ِإنَّهُ كَا َ ن تَوَّابًا : وجل- في قوله
* فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله
والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين » : يقول
.(٢)« مرة
* وروي في سنن أبي داود والترمذي عن ابن مسعود –رضي الله
من قال: استغفر الله الذي لا إله إلا » : عنه- قال: قال رسول الله
هو الحي القيوم وأتوب إليه، ُ غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من
.(٣)« الزحف
. ١) سورة النصر: ٣ )
٢) رواه البخاري. )
٣) قال الحاكم: حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم. )
رد البلاء بالاستغفار ١٧
: * وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله
والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم، ولجاء بقوم »
.(١)« يُذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم
إن كنت َألممت » :- لعائشة –رضي الله عنها * وقال النبي
فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب،
.(٢)« تاب الله عليه
خيار أمتي الذين يشهدون أن لا إله » : أنه قال * وعن النبي
إلا الله وإني رسول الله، الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساؤوا
استغفروا. وشرار أمتي الذي ولدوا في النعيم فُلذُّوا به، إنما همتهم
.(٣)« ألوان الطعام والثياب ويتشدَّقون في الكلام
* وعن حذيفة بن اليمان –رضي الله عنه- قال: كان في لساني
.( َذرَبٌ( ٤
إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، » : * وقوله
فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد حتى يعلو قلبه ذاك
بَ ْ ل رَا َ ن عََلى ُقُلوِب ِ همْ : الران الذي ذكره الله عز وجل في القرآن
.(٦) (٥) مَا َ كانُوا يَ ْ كسِبُو َ ن
١) رواه مسلم. )
٢) رواه البخاري. )
.١٢٠/ ٣) رواه أبو نعيم في الحلية: ٦ )
٤) الذرب: الحاد. واللسان الذرب: الشتَّام الفاحش الذي لا يبالي ما قال. )
. ٥) سورة المطففين: ١٤ )
٢٩٧ ، واللفظ له، وابن ماجه في السنن. / ٦) رواه الإمام أحمد في مسنده: ٢ )
١٨ رد البلاء بالاستغفار
* وفي حديث عبد الله بن عمرو –رضي الله عنه- أن أبا بكر –
رضي الله عنه- قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي،
قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب » : قال
إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور
.(١)« الرحيم
إذا فرغ من دفن * بالاستغفار يُودع الميت: لذا فقد كان النبي
استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت، فإنه » : الميت. وقف عليه فقال
.(٢)« الآن يُسأل
: * وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله
إن الله –عز وجل- ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: »
.(٣)« يا رب أن لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك
١) رواه مسلم. )
٢) رواه أبو داود. )
٣) رواه الإمام أحمد. )
رد البلاء بالاستغفار ١٩
تعزَّ بأهل البلاء
تَلفَّتْ يُمنة ويُسرى، فهل ترى إلا مُبتلى؟ وهل تشاهد إلا منكوبا
في كل دار نائحة، وعلى كل خدٍّ دمعٌ وفي كل واد بنو سعد.
كم من المصائب، وكم من الصابرين، فلست أنت وحدك
المصاب، بل مصابك أنت بالنسبة لغيرك قليل، كم من مريض على
سريره من أعوام، يتقلب ذات اليمين وذات الشمال، يئن من الألم،
ويصيح من السقم.
كم من محبوس مرَّت به سنوات ما رأى الشمس بعينه، وم ا
عرف غير زنزانته؟ كم من رجل وامرأة فقدا َفَل َ ذات أكبادهما في ميعة
الشباب وريعان العمر؟ وكم من مكروب ومدين ومصاب
ومنكوب.
آن لك أن تتعظ ﺑﻬؤلاء، وأن تعلم علم اليقين أن هذه الحياة
سجن للمؤمن ودار للأحزان والنكبات، تُصبح القصور حافلة بأهلها
وتمسي خاوية على عروشها، يبنيها الشمل مجتمع والأبدان في عافية،
والأموال وافرة، والأولاد كثر، ثم ما هي إلا أيام فإذا الفقر والموت
وَتَبَيَّنَ َل ُ كمْ كَيْفَ َفعَلْنَا ِب ِ همْ : والفراق والأمراض. قال تعالى
.(١) وَضَرَبْنَا َلكُمُ اْلَأمَْثا َ ل
فعليك أن توطِّن مصابك بمن حولك، وبمن سبقك في مسيرة
الدهر، ليظهر لك أنك معافى بالنسبة لهؤلاء، وأنه لم يأتك إلا وخزاتٌ
. ١) سورة إبراهيم: ٤٥ )
٢٠ رد البلاء بالاستغفار
سهلة، فاحمد الله على لطفه، واشكره على ما أبقى، واحتسب ما أخذ
قدوة وقد وُضع السَّلى على واتعظ بمن حولك ولك في الرسول
رأسه، وُأدميت قدماه وشُجَّ وجهه، وحُوصر في الشِّعْب حتى أكل
ورق الشجر، وطرد من مكة، وكسرت ثنيته، ورُمي عرض زوجته
الشريفة، وُقتل سبعون من أصحابه، وفقد ابنه، توفي أكثر بناته في
حياته، وربط الحجر على بطنه من الجوع واتُّهم بأنه شاعر ساحر
كاهن مجنون كاذب، صانه الله من ذلك، وهذا بلاء لابد منه
وتمحيص لا أعظم منه، وقد ُقتل زكريا، وُذبح يحيى، وهُجر موسى.
ووضع الخليل في النار، وسار الأئمة على هذا الطريق فضُرِّج عمر
بدمه واغتيل عثمان، و ُ طعن عليٌّ وجُلدت ظهور الأئمة وسُجن
َأمْ حَسِبْتُمْ َأ ْ ن تَ دْخُُلوا اْلجَنََّة : الأخيار ونُكِّل الأبرار قال تعالى
وََلمَّا يَْأتِ ُ كمْ مََثلُ الَّذِينَ خََلوْا مِنْ َقبْلِ ُ كمْ مَسَّتْهُمُ اْلبَْأسَاءُ وَالضَّرَّاءُ
.(٢) (١) وَزُلِْ زلُوا
( واجب المؤمن نحو الشدائد الخمس( ٣
إذا كان هذا حال هذه الشدائد الخمس في حياة المسلم، فإنه
يجب عليه أمور تجاه هذه الشدائد، وذلك حتى يسلم منها، وينجو من
أذاها، أو تفادى أذاها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وعند النظر
والتأمل، فإن المؤمن لابد من أمور تُحصِّنه من هذه الشدائد الخمس،
. ١) سورة البقرة: ٢١٤ )
١٤٢٨ ه- ٢٠٠٧ م – - ٢) هكذا هزموا اليأس، سلوى العضيدان، ص ١٩٦ ، ط ١ )
الناشر نفسها.
٣) فقه الابتلاء، محمد أبو صعيليك، ص ١٠ ، دار البيارق، عمان- الأردن. )
رد البلاء بالاستغفار ٢١
ليسلم منها، وهذه الأمور المطلوبة منه، نذكره ﺑﻬا هنا كما يلي:
أولا: اللجوء إلى الله تعالى:
ذلك أن من لجأ إلى الله تعالى واستجار بحماه أجاره وحماه، وأبعد
عنه كل ما يخيفه، ذلك لأن هذه الشدائد المذكورة لا يسلم منها إلا
الله ولا يُنجي منها سواه، أليس هو الذي يندب عباده إلى الفرار إليه
١). أليس هو الذي تعهد بكشف الضُّرِّ والسوء ) َففِرُّوا ِإَلى اللَّهِ
.(٢) وَيَكْشِفُ السُّوءَ
أليس هو الذي يصرف عن عباده كل م ا يخيفهم في الدني ا
والآخرة؟ إن واجبهم أن يلجأوا إليه سبحانه في كل لحظة وحين، لأن
المدافع عن الدين والحافظ له، والذي خلَّص الدعاة إلى الله تعالى من
الفتن هو الله، ومن يستجير بحماه يُجار، ومن يرفع ظلامته إلي ه
يُنصف، ومن يوكل أمره إليه يَسلم، ومن أولى باللجوء إليه من الله؟
ومن أعرف بطريق الله من المؤمن؟ ومن أحرى منه باللجوء إلى ربه
سبحانه وتعالى؟ ليخلصه من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، ويؤمن
روعته في يوم يراع فيه الناس إلى من رحم الله.
ثانيا: الصبر:
لابد لمن بلي ﺑﻬذه الشدائد الخمس من صبر يتزود به، ويعينه على
لأواء الطريق – وخاصة لأن بعض هذه الشدائد قد تأتيه ممن لا يحل له
قتله كالمؤمن الذي يحسده، والمنافق الذي يبغضه، وهذا يحوجه إلى
. ١) سورة الذاريات: ٥٠ )
. ٢) سورة المائدة: ٦٢ )
٢٢ رد البلاء بالاستغفار
مزيد صبر حتى يضيع على هؤلاء فرصتهم في أذاه، ويعمل على
الخلاص من الأذى الذي مظنة له، وهذا يشمل كل مسلم بشكل
عام، والدعاة بشكل خاص؛ لأن هؤلاء أولى الناس بالصبر والتحلي
بالأخلاق الفاضلة، وذلك حتى تتم دعوﺗﻬم لله.
وتخلص أعمالهم له، وفي نصيحة هؤلاء الدعاة يقول الأستاذ
فتحي يكن- حفظه الله: "أما دعاة الإسلام فإن عليهم إن ابتلوا بمن
يحسدهم أن يتذرَّعوا بالصبر والصلاة، ويعوذوا بالله من شرور نفوس
الناس، وشرور ظلمهم وحسدهم، ولا يخرجنهم الغضب إلى الرد
والكيد وإلى اتباع غير سبيل المؤمنين؛ لأﻧﻬم بذلك يصبحون مثلهم،
ويخسرون تميزهم وخُلقهم ودينهم، والأولى أن ينفقوا مما عندهم من
خير ويحتسبوا ما يصيبهم عند الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض
ولا في السماء".
ثالثا: الحذر:
لابد لمن أحاطت به تلك الشدائد الخمس والتي هي ملمات
تكسر الظهر وتؤذي النفس، وتعطل العمل من أن يكون حذرا،
فيحذر من المؤمن الحاسد أن يؤذيه بحسده، ومن المنافق المبغض أن
يؤدي به بغضبه إلى آذه بالكيد والمؤامرات التي يحكيها له في الليل
والنهار، ومن الكافر الذي يقاتله بكل وسيلة وفي كل زمان ومكان،
ومن الشيطان الذي أخذ عهدا على نفسه أن يعمل على إضلاله م ا
استطاع إلى ذلك سبيلا، ومن النفس، تلميذة الشيطان الذي لا تكاد
تترك التفلُّت والمنازعة لإطاعة أوامر الشيطان وعصيان أوامر الرحمن.
رد البلاء بالاستغفار ٢٣
إن من يحيط به هؤلاء الخمسة لهو أحوج الناس إلى الحذر
والحيطة، ليسلم من سهام هؤلاء التي لا تكاد تخطؤه، ولئن كان
المسلم الملتزم بحاجة إلى الحذر، فإن أولئك الدعاة أشد الناس حاجة
إلى الحذر.
رابعا: العفو:
لابد للمؤمن المبتلى من العفو عمن ظلمه، وخاصة في مواجهة
المؤمن الحاسد له، والذي هو أحد الشدائد الخمس المسلطة عليه،
والعفو خصلة من كرام خصال المؤمنين، وقد وصف الله تعالى
.(١) وَالْعَافِينَ عَ ِ ن النَّا ِ س وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِِنينَ : المؤمنين فقال
وَِإنْ تَعُْفوا وَتَصَْفحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ : وندبنا إليه فقال
٢). والعفو أداة مهمة في يد الداعية إلى الله تعالى ) غَفُورٌ رَحِيمٌ
يستجلب ﺑﻬا القلوب، ويدخل ﺑﻬا إلى النفوس، ويرد ﺑﻬ ا سهام
الحاسدين عن نفسه، وهو أحرى الناس بالعفو عن غيره؛ لأن الناس
يأملون منه أكثر مما يؤملون من غيره، ويتوسمون فيه الخير، وإن من
الأمور الخيِّرة التي تتوسم فيه عفوه عمن ظلمه وصفحه عنه، وم ا
أحوج الدعاة إلى الله تعالى في هذه الأيام إلى مثل هذه المسألة
وتطبيقها عمليا ليسلم لهم قيادة أنفسهم، وبالتالي يسلم الناس إليهم
قيادة أمورهم، بما يروا في حياﺗﻬم من جوانب القدوة المشرقة التي
تجلب الاتباع وتسر المؤمنين، وترد كيد الكافرين، فهذا أمر واجب
. ١) سورة آل عمران: ١٤٢ )
. ٢) سورة التغابن: ١٤ )
٢٤ رد البلاء بالاستغفار
ينبغي لمن تصدر لدلالة الناس على الله تعالى أن يتمثل ﺑﻬذا ويعمل به
لتُثمر دعوته وتؤتي أكلها في حياة الناس والله المستعان.
خامسا: تربية النفس:
لابد للمؤمن الذي تحيط به هذه الشدائد الخمس من تربية نفسه
تربية صحيحة، وذلك حتى يفوت على هؤلاء الأعداء الخمسة أي
فرصة لإيقاع الأذى به، وعند النظر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله
نجد أن التربية الصحيحة للنفس لابد أن تسير وفق مسائل ثلاثة،
وهذه الأمور هي:
- المحاسبة: حيث يعمل المرء على محاسبة نفسه على كل صغير
وكبير.
- المراقبة: وهي أن يراقب المرء نفسه ليمنعها من شهواﺗﻬا، ومن
معصية الله سبحانه وتعالى.
- واﻟﻤﺠاهدة: وهي أن يحمل المرء نفسه على الطاعة حملا، ولا
يترك لها مجالا لمنازعته نحو المعصية، فإذا تمت له هذه الأمور الثلاثة
تسلم نفسه له قيادﺗﻬا، ويعينه الله عز وجل عليها فإذا استقام حاله،
واستوت نفسه، وقل فيه حظ الشيطان. فإنه عندئذ يسلم من تلك
الشدائد الخمس.
وينجو من تلك الآفات، وذلك بسبب قربه من ربه سبحانه
وتعالى، الذي يمنع عنه كل أذى، ويُبعد عنه كل سوء، ويُسلمه من
كل شر، فإذا كان حاله كذلك سلمه الله تعالى من شر المؤمن
الحاسد، فأخفاه، ومن شر المنافق الذي يبغضه ويكيد له المكائد،
رد البلاء بالاستغفار ٢٥
ويخلصه من أذاها له والذي يعينه على شر نفسه ومنازعته ا له إلى
المعصية، كما يعينه على الخلاص من إضلال الشيطان له. وإبعاده عن
طريق الله تعالى، فإذا تربَّت النفس تَحقَّق لها الحماية من كل هذه
الشرور والشدائد الخمسة، التي أعجزت بني آدم ولا سلامة منها إلا
بالاستعانة بالله تعالى، والله المستعان.
فوائد الشدائد( ١
الشدائد التي تصيب المسلم في حياته بشتى الصور، لابد لها من
فوائد فبالرغم من أﻧﻬا مكروهة للنفس، إلا أن الله يكفر ﺑﻬا الخطايا،
ويرفع ﺑﻬا الدرجات، كما أن الكرب يدفع بالمكروب إلى التوبة،
فيلجأ إلى الله وينكسر بين يديه، وهذا الانكسار أحب إلى الله من
كثير من العبادات، فما أجمل أن ينكسر المخلوق لله، ويشعر بذلة
أمامه، ويشعر بحاجته إليه وافتقاره إلى خالقه، فينقطع إلى الخالق
ويترك المخلوق، وهنا يتحقق التوحيد وينتفي من أدران الشرك
أدعية إذا بأنواعها، ويخلص الإنسان لربه. وقد علمنا رسول الله
نزل بنا الكرب، واشتدت الأمور، وضاقت علينا الأرض بما رحبت
فقد جاء في الصحيحين عن ابن عباس –رضي الله عنهما- أن رسول
لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله » : كان يقول عند الكرب الله
إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب
يا حي » : إذا حزبه أمر قال وكان .« الأرض رب العرش الكريم
وقال عليه الصلاة والسلام لأسماء بنت « يا قيوم برحمتك أستغيث
١٤٢٨ ه - ٢٠٠٧ م. ، ١) هكذا هزموا اليأس، سلوى الضيدان، ص ٢٣٨ ، ط ١ )
٢٦ رد البلاء بالاستغفار
ألا أعلمك كلمات تقولهن عند الكرب: الله ربي لا أشرك » : عُميس
من أصابه هم أو غم أو » : وقال عليه الصلاة والسلام .« به شيئا
وعن « سَقمٌ أو شدةٌ فقال: الله ربي لا شريك له، كشف ذلك عنه
دعوة المكروب: اللهم رحمتك » : قال أبي بكرة أن رسول الله
أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله
دعوة ذي النون إذ دعا ﺑﻬا في بطن الحوت: » : وقال .« إلا أنت
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لا يدعو ﺑﻬا رجل
.« مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له
مظاهر الابتلاء
أولا: الابتلاء بالشر:
وله عدة صور منها ما يلي:
١- أن يبتلي الله المؤمن بفقد عزيز عليه كأبيه أو أمه أو ولده.
٢- أن يبتلى المؤمن بفقد جزء من جسمه كذهاب بصره، أو
سمعه، أو رجله، أو يده.
٣- ابتلاء المؤمن بمرض عُضال أو فتاك، أو يُبتلى بالخوف
والجوع وضيق الرزق. قال تعالى: إشارة إلى تعدد مظاهر الابتلاء :
وََلنَبْلُوَنَّكُمْ ِبشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَاْلجُو ِ ع وَنَقْ ٍ ص مِنَ الْأَمْوَا ِ ل
.(١) وَالَْأنْفُ ِ س وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّ ِ ر الصَّاِب ِ رينَ
٤- ومن أعظم ما يبتلى به المؤمن من صور الابتلاء بالشر هي
. ١) سورة البقرة: ١٥٥ )
رد البلاء بالاستغفار ٢٧
المصيبة في الدين، فهي القاصمة والمهلكة والنهاية التي لا ربح معها،
وعموما فإن مصاب الدين لا فداء له، فهو أعظم من مصيبة النفس
والمال؛ لأن المال يخلفه الله تعالى، وهو فداء الأنفس، والنفس فداء
الدين، والدين لا فداء له( ١) ذلك أن كل مصيبة في دنيا الإنسان قد
.( تعوض بخير منها أو مثلها، أما مصيبة الدين فحسرة لا تُعوَّض( ٢
٥- الابتلاء بالسيئات أو المعاصي، وهذه قد تَخفى حكمته على
.( الكثيرين إذ قد يراد به "اختبار الصدق في الإيمان"( ٣
ويشير ابن القيم –رحمه الله- إلى ثمرة هذا الابتلاء بقوله: "لو لم
تكن التوبة أحب إلى الله لما ابتلى بالذنب أكرم المخلوقات عليه –آدم
عليه السلام- فالتوبة هي غاية كل كمال آدمي وقد كان كمال أبينا
.( آدم –عليه السلام- ﺑﻬا"( ٤
ثانيا: الابتلاء بالخير:
ويقصد به اختبار الله تعالى عبده المسار ليشكره وله صور شتى
منها:
فو الله م ا » : ١- أن يبتلى العبد بالغنى وكثرة العرض: قال
الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا
كما بُسطت على من كان قبلكم فتَنافِسوه ا كم ا تنافسوه ا
. ١) انظر تسلية أهل المصائب لأبي عبد الله المنجي، ص ١٩ )
. ٢) الإيمان والحياة للدكتور الشيخ يوسف القرضاوي، ص ١٩٦ )
. ٣) موسوعة نضرة النعيم، ص ١٢ )
. ٤) مفتاح دار السعادة لابن قيم، ج ١، ص ٢٨٦ )
٢٨ رد البلاء بالاستغفار
.(١)« وتُلهيكم كما ألهتهم
إني مم ا أخاف » : ٢- ابتلاؤه بزينة الدنيا وزهرﺗﻬا. قال
.(٢)« عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها
٣- الابتلاء بحب الرياسة والجاه، فيطلبها ويحرص عليها فيكون
إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون » : فيها هلاكه. لقوله
.(٣)« ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة
٤- ويدخل في هذا المظهر ابتلاء العبد بالطاعات ليشكر ربه
على ما هداه إليه، فضرب الله لنا أروع الأمثلة: بإبراهيم –عليه
السلام- لما ابتلاه الله بذبح ولده وفلذة كبده فأراد أن يمضي تلك
وَنَادَيْنَاهُ َأ ْ ن يَا ِإبْرَاهِيمُ * َقدْ : الطاعة لربه فناداه الله تعالى بقوله
صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ِإنَّا َ ك َ ذلِكَ نَجْ ِ زي الْمُحْسِِنينَ * ِإنَّ هَ َ ذا َلهُوَ الْبََلاءُ
.(٤) الْمُِبينُ
والابتلاء بالخير هو أشد البلاء؛ لأن القيام بحقوق الصبر أيسر من
القيام بحقوق الشكر. فصارت المنحة أعظم البلاءين لهذا قال عمر بن
الخطاب –رضي الله عنه-: "بلينا بالضراء فصبرنا، وبلينا بالسراء فلم
نصبر". وقال علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-: "من وُسِّع عليه في
.( دنياه فلم يعلم أنه قد مُكر به فهو مخدوع في عقله"( ٥
١) صحيح البخاري. )
٢) صحيح البخاري. )
٣) صحيح البخاري. )
.١٠٦- ٤) سورة الصافات: ١٠٤ )
. ٥) بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي، ج ٢، ص ٢٧٥ )
رد البلاء بالاستغفار ٢٩
أخي القارئ: فالبلاء يكون حسنا ويكون سيئا كم ا أسلفن ا
وأصله المحنة، والله عز وجل يبلو عبده بالصنيع الجميل ليمتحن
شكره، ويبلو بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره، عن عبد الله بن
ي ا » : فقال عمر –رضي الله عنهما- قال: أقبل علينا رسول الله
.« معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتهم ﺑﻬن، أعوذ بالله أن تدركوهن
١-لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا ﺑﻬا إلا فشي ﺑﻬم
الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا.
٢- ولم يقتصوا المكيال والميزان، إلا ابتلوا بالسنين، وشدة المؤنة،
وجور السلطان عليهم.
٣- ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا
البهائم لم يمطروا.
٤- ولم ينقضوا عهد الله ورسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من
غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيدهم.
٥- وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا فيما أنزل الله عز
.(١)« و جل إلا جعل الله بأسهم بينهم
وبين الله –عز وجل- سبب الابتلاءات، كرغد العيش، أو
ضيقه، واعتدال المناخ أو قسوته، كالزلازل والبراكين والفيضانات
َ ظهَرَ الْفَسَادُ فِي : والأعاصير والقحط، وما أشبه ذلك في قوله تعالى
الْبَرِّ وَالْبَحْ ِ ر ِبمَا َ كسَبَتْ َأيْدِي النَّا ِ س لِيُذِيَقهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا
. ١) سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، باب العقوبات، ص ٩١١ ، حديث رقم: ٤٠١٩ )
٣٠ رد البلاء بالاستغفار
.(١) َلعَلَّهُمْ يَرْجِعُو َ ن
أي ظهرت المعاصي في البر والبحر. فحبس الله عن الناس الغيث
.( وأغلى سعرهم ليذيقهم عقاب بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون( ٢
قيل: "إن الله يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات اختبارا
لهم ومجازاة على صنيعهم، لعلهم يرجعون عن المعاصي".
سؤال( ٣)، لم شدد البلاء على الأفاضل؟
الجواب: قيل لأن الله تعالى يبغض الدنيا، وامتحن الأولياء فيه ا
كي لا يميلوا إليها وهي مبغوضة وأيضا ليكثر الأجر لهم.
فإن قيل: لم حجب عنهم الدنيا؟
قيل: ليتفرغوا لطاعته ولا يشتغلوا ﺑﻬا عنه فتحملهم على المعصية،
َفَلمَّا نَسُو ا مَا : فربما تكون النعمة سببا للمعصية، لقوله تعالى
ُ ذكِّرُوا ِبهِ َفتَحْنَا عََليْ ِ همْ َأبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى ِإ َ ذا َف ِ رحُوا ِبمَا ُأوتُوا
.(٤) َأخَذْنَاهُمْ بَغْتًَة َفِإ َ ذا هُمْ مُبْلِسُو َ ن
. ١) سورة الروم: ٤١ )
. ٢) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج ١٤ ، ص ١٤١ )
٣) كشف الأسرار عما خفي عن الأفكار، شهاب الدين الأقفهسي، تحقيق محمد خير )
١٤٢٦ ه - ٢٠٠٥ م. دار ابن حزم، بيروت. ، رمضان يوسف، ص ٦٠ ، ط ١
. ٤) سورة الأنعام: ٤٤ )
رد البلاء بالاستغفار ٣١
الابتلاء سنة من سنن الله في حياة الناس
رغم أن البلاء والابتلاء سنة ربانية في حياة البشر قال تعالى :
١)، إلا أنه ليس للمسلم أن يسأل الله ) لِيَبْلُوَكُمْ َأيُّ ُ كمْ َأحْسَنُ عَمًَلا
لا » : ألا نفعل ذلك فقال الابتلاء أو يتمناه فقد علمنا رسول الله
تتمنوا لقاء العدو، فإنكم لا تدرون لعلكم تبتلون به، ولكن قولوا
.(٢)« اللهم أكفناهم، وأكفف بأسهم
لذا جعل الله عز وجل الابتلاء والمحن سنة في حياة الناس، قال
َأحَسِبَ النَّاسُ َأ ْ ن يُتْرَكُوا َأ ْ ن يَُقوُلوا آَمَنَّا وَهُمْ َلا يُ ْ فتَنُو َ ن * : تعالى
وََلَقدْ َفتَنَّا الَّذِينَ مِنْ َقبْلِ ِ همْ َفَليَعَْلمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وََليَعَْلمَنَّ
.(٣) الْكَاذِِبينَ
وفي التعقيب على هذه الآية يقول الأستاذ سيد قطب –رحمه الله
تعالى- "هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت، وسنة جارية في ميزان الله
سبحانه" ويقول أيضا: "أﻧﻬا سنة العقائد والدعوات، لابد من بلاء
ولابد من أذى في الأموال والأنفس، ولابد من صبر ومقاومة واعتزام،
إنه الطريق إلى الجنة، وقد حُفت الجنة بالمكاره، بينما حُفت النار
.( بالشهوات"( ٤
وفي تفسير هذه الآية: أظن العباد أﻧﻬم إذا قالوا: آمنا تركوا على
. ١) سورة الملك: ٢ )
٢) رواه البخاري ومسلم. )
.٣- ٣) سورة العنكبوت: ٢ )
.١٨٠/ ٤) في ظلال القرآن: ٢ )
٣٢ رد البلاء بالاستغفار
هذه الدعوة لم يختبروا ويبتلوا؟ بلى سوف يختبرون بالبلاء ليظهر
الصادق من الكاذب، ولقد امتحن الله الأقوام السابقين بإرسال
الرسل إليهم، فظهر علم الله في صدق الصادق في إيمانه، وكذب
.( الكاذب في دعواه( ١
نزول البلايا بين المؤمن وغيره
نزول البلايا والمصائب لا يُختص به أحد دون أحد، فقد تنزل
بالبر والفاجر، والمسلم والكافر.
ولكن فرق بين نزولها على البر المؤمن، وبين نزولها على الفاجر
أو الكافر، فالمؤمن البارُّ يستقبلها برضا وسرور، فترتفع ﺑﻬا درجاته في
الدنيا والآخرة.
وكلما زيد في بلاء المؤمن فصبر واحتسب ورضي –أعانه الله-
ولطف به وأنزل عليه من السكينة والرضا، واليقين، والقوة م ا لا
يخطر ببال.
أما الفاجر والكافر، فيستقبلها ﺑﻬلع، وجزع، فتزداد مصائ به،
وتكون من عاجل العقوبة له. قال عمر بن العزيز –رضي الله عنه-:
"أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر، إن تكن السراء
.( فعندي الشكر، وإن تكن الضراء فعندي الصبر"( ٢
. ١) التفسير الميسر، الشيخ عائض القرني، ص ٥٦٥ )
١٤٢٨ ه، ٢٠٠٧ م، دار ، ٢) خواطر، د. محمد بن إبراهيم الحمد، ص ١٥٨ / ط ١ )
ابن خزيمة، الرياض.
رد البلاء بالاستغفار ٣٣
أخي القارئ: ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن
ليصيبك، جف القلم بما أنت لاق ولا حيلة لك في القضاء. فالبلاء
يقرب بينك وبين الله ويعلمك الدعاء، ويذهب عنك الكبر والعجب
والفخر.
وأعلم إنك لست الوحيد في البلاء، فما سلم من الهمِّ أحد وم ا
نجا من الشدة بشر. وتقين أن الدنيا دار مِحن وبلاء ومُنغصات وكدر
فاقبلها على حالها واستعن بالله.
ولا تجزع من المصائب، ولا تكترث بالكوارث، ففي الحديث :
إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط »
.(١)« فله السخط
ما يزال بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده » : قال رسول الله
.(٢)« وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة
( الخشية والخوف من الله من أسباب مغفرة الذنوب( ٣
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، حدثنا عبد الملك،
عن ربيعي بن حراش، قال: قال عقبة بن عمر لحذيفة: ألا تحدثنا م ا
إن رجلا كان » : قال: إني سمعته يقول ؟ سمعت من رسول الله
فيمن كان قبلكم، أتاه الملك ليقبض روحه، فقيل له: هل عملت
من خير؟ قال: ما أعلم، قيل له: انظر، قال: ما أعلم شيئا غير أني
١) مقالات الشيخ عائض القرني من كتابه لا تحزن. )
٢) مجالس الصالحين، د. عائض القرني. )
. ٣) سورة الأنعام: ٤٤ )
٣٤ رد البلاء بالاستغفار
كنت أبايع الناس في الدنيا، وأجازيهم فأنظر الموسر، وأتجاوز عن
إن رجلا حضره » : قال: وسمعته يقول « المعسر، فأدخله الله الجنة
الموت، فلما يئس من الحياة، أوصى أهله - إذا أنا مت، فأجمعوا لي
حطبا كثيرا وأوقدوا فيها نارا، حتى إذا أكلت لحمي، وخلصت إلى
عظمي، فامتحشت فخذوها فاطحنوها، ثم انتظروا يوم ا راح ا:
فاذروه في اليوم ففعلوا، فجمعه الله، فقال له: لم فعلت ذلك؟ قال:
قال عقبة بن عمرو: أنا سمعته يقول ذاك .« من خشيتك، فغفر الله له
وكان نباشا.
والشرح المختصر للحديث القدسي المذكور: قوله: وخلصت
بالبناء للفاعل، أو بالبناء « فامتُحشت » إلى عظمي، أي وصلت إليه
للمفعول أي احترقت.
هو بفتح الراء ممدود، وبحاء مهملة منونة، :« يوما راحا » : وقوله
ﺑﻬمزة وصل، وبذال معجمة، أي « فاذروه » : أي كثير الريح. وقوله
طيروه في الريح حتى لا يجتمع.
:« فجمعه الله » . أي فعلوا ما أوصاهم به أبوهم « ففعلوا » : وقوله
أي لم أوصيت ؟« لم فعلت ذلك » : أي جمع ذراته وأحياه وقال له
أي فعلت ذلك « قال: من خشيتك » ؟ بإحراقك وذروك في الريح
وكان » : وأوصيت به يا رب من خشيتك، وخوفا منك، فغفر الله له
أي كان هذا الرجل، مع أنه لم يفعل خير ا نباش ا للقبور « نبَّاشا
ويسرق أكفان الموتى وظاهره أن ذلك من قول عقبة، لكن أورد ابن
حبان من طريق ربعي عن حذيفة قال: توفي رجل كان نباشا، فقال
رد البلاء بالاستغفار ٣٥
؟( لولده: "أحرقوني" فهنا سؤال: هل الخوف أفضل أم الرجاء( ١
فالجواب: قال بعضهم: سواء لا يفضل أحدهما على الآخر.
ويقال: ما دام الرجل صحيحا فالخوف أفضل، وما دام مريض ا
فالرجاء أفضل.
ويقال: الخوف للعاصي أفضل، والرجاء للمطيع أفضل.
ويقال: الخوف قبل الذنب أفضل، والرجاء بعد الذنب أفضل
ويقال: الرجاء أفضل لأشياء أربعة:
أحدها: الرجاء إلى فضله، والخوف من عديه، والفضل أكرم من
العدل.
والثاني: الرجاء إلى الوعد، والوعد من بحر الرحمة، والخوف من
الوعيد والوعيد من بحر الغضب، ورحمته سبقت غضبه.
والثالث: الرجاء من الطاعة، والخوف من المعصية، ومن الطاعة
ما يعلو على المعاصي، كالتوحيد.
والرابع: الرجاء بالرحمة، والخوف من الذنوب، والذنوب ذو
ﻧﻬاية، والرحمة لا ﻧﻬاية لها.
ويقال الخوف أفضل منه، لأنه وعد بالخوف جنتين، ولم يعد
بالرجاء إلا جنة واحدة.
وأيضا الخوف يمنع من الذنوب، وترك الذنوب أفضل من فعل
. ١) سورة الأنعام: ٤٤ )
٣٦ رد البلاء بالاستغفار
الخيرات.
ويقال: من عَبدَ الله بالخوف فهو مؤمن، ومن عبد الله بالرض ا
فهو مرجئ ومن عبد الله بالحب فهو زنديق، ومن عبد الله بالثلاثة فهو
مستقيم.
* * *
رد البلاء بالاستغفار ٣٧
( لو بلغت ذنوبك عنان السماء...؟( ١
يقول : عن أنس –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله
قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك »
على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان
السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم، إنك لو
أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك
.(٢)« بقراﺑﻬا مغفرة
عنان السماء: قيل هو السحاب، وقيل هو ما عن لك منها، أي
ظهر:
وقارب الأرض: وهو ما يقارب ملأها. هذا من الأحاديث
القدسية.
وَقَا َ ل رَبُّكُمُ ادْعُوِني : وفيه: فضل الدعاء والرجاء. قال تعالى
.(٣) َأسْتَ ِ جبْ َل ُ كمْ
والرجاء يتضمن حسن « الدعاء مخ العبادة » : وقال النبي
.« أنا عند ظن عبدي بي » : الظن بالله، والله تعالى يقول
وفيه: الحث على الاستغفار. قال الحسن: أكثروا من الاستغفار
في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وأسواقكم، ومجالسكم،
. ١) تطريز رياض الصالحين، فيصل بن عبد العزيز آل مبارك، ص ١٠٧٢ )
٢) رواه الترمذي. )
. ٣) سورة غافر: ٦٠ )
٣٨ رد البلاء بالاستغفار
وأينما كنتم، فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة.
وقال قتادة: إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأم ا
داؤكم، فالذنوب، وأما دواؤكم، فالاستغفار.
وقال إبليس –لعنه الله-: أهلكت بني آدم بالذنوب، وأهلكوني
بلا إله إلا الله والاستغفار.
فما أسعد حال من دوام لا إله إلا الله واستغفر الله. فغاية الكمال
لرب العزة والجلال إفراده بالوحدانية وغاية كمال العبد التبرؤ من
الحول والقوة، والتطهر من الذنوب والسيئات.
قال بعض العارفين:
استغفر الله مما يعلم الله إن الشقي لمن لا يرحم الله
ما أحلم الله عمن لا يراقبه كل مسيء ولكن يحلم الله
فاستغفر الله مما كان من زلل طوبى لمن كفَّ عما يكره
طوبى لمن حُسنت منه طوبى لمن ينتهي عما ﻧﻬى الله
قال ابن القيم –رحمه الله- في معنى قوله: "يا ابن آدم لو أتيتني
بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقراﺑﻬ ا
مغفرة": يُعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه مالا ينبغي لمن
ليس كذلك، فلو لقي الموحد الذي لمن يشرك بالله البتة ربه بقراب
الأرض خطايا، أتاه بقراﺑﻬا مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده،
فإنه التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب؛ لأنه
رد البلاء بالاستغفار ٣٩
يتضمن من محبة الله وإجلاله، وتعظيمه، وخوفه، ورجائه، وحده م ا
يوجب غسل الذنوب، ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة،
والدافع قوي، ومعنى قراب الأرض ملؤها أو ما يقارب ذلك، ولكن
هذا مع مشيئة الله عز وجل، فإن غفر بفضله ورحمته، وإن شاء عذب
.( بعدله وحكمته، وهو المحمود على كل حال( ١
تأثر الحجر الأسود بالذنوب
أخي القارئ: ألا ترى أن الحجر الأسود مع صلابته وقساوته قد
تأثر بذنوب بني آدم وخطاياهم، وكان عند نزوله من الجنة أشد بياضا
من اللبن، فسودته خطايا بني آدم، كما ورد ذلك في الحديث المروي
نزل » : عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله
الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن؛ فسودته خطايا
.(٢)« بني آدم
أي صارت ذنوب بني آدم الذين يمسحون الحجر سببا لسواده،
والأظهر حمل الحديث على حقيقته إذ لا مانع نقلا ولا عقلا، وقال
بعض الشراح، والمعنى: أن الحجر الأسود لما فيه من الشرف والكرامة
وما فيه من اليمن والبركة شارك جواهر الجنة فكأنه نزل منها، وأن
خطايا بني آدم تكاد تؤثر في الجماد فتجعل المبيض منه أسودا فكيف
بقلوﺑﻬم. أو لأنه من حيث أنه مكفر للخطايا محَّاءٌ للذنوب كأنه من
١) موسوعة روائع الدعاء والأذكار، أحمد بن سالم بادويلان، ص ١٠٧ ، دار طويق )
للنشر والتوزيع.
٢) رواه أحمد والترمذي. )
٤٠ رد البلاء بالاستغفار
الجنة، ومن كثرة تحمله أوزار بني آدم صار كأنه ذو بياض شديد
فسودته الخطايا.
ومما يؤيد هذا أنه كان فيه نَُقط بيض ثم لا زال السواد يتراكم
إذا أذنب نكتت في قلبه نكتة » : عليها حتى عمَّها، وفي الحديث
سوداء فإذا أذنب نكتت فيه نكتة أخرى وهكذا حتى يسود قلبه
َ كلَّا بَ ْ ل رَا َ ن عََلى ُقُلوِب ِ همْ مَا َ كانُوا : جميعه ويصير ممن قال فيهم
١)، والحاصل أن الحجر بمنزلة المرآة البيضاء في غاية الصفاء ) يَ ْ كسِبُو َ ن
ويتغير بملاقاة مالا يناسبه من الأشياء حتى يسود لها جميع الأجزاء، وفي
الجملة الصحبة لها تأثير بإجماع العقلاء.
قال الحافظ ابن حجر: واعترض بعض الملحدين على هذ ا
الحديث فقال: كيف سودته خطايا المشركين ولم تبيضه طاعات أهل
التوحيد؟
وأجيب بما قال ابن قتيبة: لو شاء الله لكان ذلك، وإنما أجرى الله
العادة بأن السواد يصبغ ولا ينصبغ على العكس من البياض. وقال
المحب الطبري: في بقائه أسود عبرة لمن له بصيرة: فإن الخطايا إذا أثرت
في الحجر الصلد فتأثيرها في القلب أشد، ويروي عن ابن عباس –
رضي الله عنهما- إنما غيره بالسواد لئلا ينظر أهل الدني ا إلى زينة
الجنة، فإن ثبت فهذا هو الجواب.
إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة » : وقوله
سوداء، فإن تاب ونزع فاستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى
. ١) سورة المطففين: ١٤ )
رد البلاء بالاستغفار ٤١
.« تعلو قلبه فذلك الرَّان الذي ذكره الله
أخي في الله: إذا كان هذا حال الحجر الصلد الصلب مع حجارته
وقساوته يتأثر من خطايا بني آدم فكيف بمضغة
رد البلاء بالاستغفار
المقدمة
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوبة، ومكفر السيئات، يفرح
لتوبة عباده أشد ما يفرح أحدنا إذا وجد ضالته .. وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله
عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .. أما بعد:
الإنسان في هذه الحياة له غاية يسعى إليها ويتجه نحوها وقد
علمَّنا ربنا - سبحانه- أن الإنسان يجب أن تكون غايته - الله-
يتجه إليه - سبحانه - ويسعى للوصول إليه عن طريق الكمال
الذي يتحلَّى به حتى تسمو نفسه وتتهذب مداركه .. يقول الله -
١). وفرار الإنسان ) َففِرُّوا ِإَلى اللَّهِ ِإنِّي َل ُ كمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ : تعالى
إلى الله يكون بذكر الله والاستغفار والتضرع إليه بما علمنا في كتابه
وعلى ألسنة رسله وأنبيائه الهداة المصلحين، ونظرا لأن في الآخرة
ثوابا وعقابا فعلى الإنسان أن يفر من معصية الله إلى طاعته؛ ليفوز
بثواب الله وينجو من عقابه في بوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من
أتى الله بقلب سليم.
أخي القارئ .. المعاصي قد تكثَّرت والذنوب قد توفَّرت،
والشيطان اللعين مشغول فيما قال أمام رب العالمين بالحلف الأكيد:
،(٢) َفِبعِزَّتِكَ َلأُغْ ِ ويَنَّهُمْ َأجْمَعِينَ * ِإلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ اْلمُخَْلصِ ينَ
. ١) سورة الذاريات آية ٥٠ )
.٨٣- ٢) سورة ص: ٨٢ )
٦ رد البلاء بالاستغفار
ففعل فعلته التي فعل من أمام وخلف ومن يمين وشمال حتى أضل منَّا
َ ظهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْ ِ ر ِبمَا َ كسَبَتْ َأيْدِي : جبلًّا كثيرا
.(١) النَّا ِ س
فالواجب على العبد المؤمن أن لا يعصي ربه تعالى طرفة عين،
ولو عصى بما استذله الشيطان أو أمرته نفسه الأمارة بالسوء
بالعصيان، فإنه لا يقنط من رحمة الله ولا ييأس من مغفرة مهما
عصى وازداد في الإثم، ويبادر إلى التوبة والاستغفار وتجهيزها
للموت والاستعداد له.
أخي المسلم: إن علامة الاهتداء إلى الطريق القويم السليم، تقديم
العمل الصالح، وهو ما كان خالصا لله تعالى، ومجرد الإيمان وإن
كان يمنع المؤمن الخلود في النار ويدخله الجنة، لكن العمل يزيد نور
الإيمان، وبه يتنور قلب المؤمن، فنور قلبك ووجهك بالطاعة والعمل
الصالح.
قال موسى –عليه السلام- يا رب أي عبادك أعجز؟ قال :
الذي يطلب الجنة بلا عمل، قال: وأي عبادك أبخل؟ قال: الذي
سأله سائل وهو يقدر على إطعامه ولم يطعمه.
فإن الله عز وجل أمر عباده بالتوبة والاستغفار وسمَّى ووصف
نفسه بالغفار والغفور وغافر الذنب. وأثنى على المستغفرين
ووعدهم بجزيل الثواب، ويرضى عن المستغفر الصادق؛ فالاستغفار
هو الدواء الناجع والعلاج الناجح من الذنوب والخطايا .. قال
. ١) سورة الروم: ٤١ )
رد البلاء بالاستغفار ٧
وَْلتَنْ ُ ظرْ نَفْسٌ مَا َقدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَُّقوا اللَّهَ ِإنَّ اللَّهَ خَِبيرٌ ِبمَا : تعالى
١). إذًا أي شيء قدمت من الأعمال ليوم القيامة؟ ) تَعْمَُلو َ ن
فيما يرويه أبي هريرة –رضي الله عنه : قال رسول الله
والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم ولجاء بقوم »
كل » : وقال في موضع آخر .« يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم
.« بيني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون
وإن كثير من الناس يعتقدون أن الاستغفار يكون باللسان يقول
أحدهم: "استغفر الله"، ثم لا يوجد لهذه الكلمات أثر في القلب
كما لا يُشاهد لها تأثير على الجوارح ومثل هذا الاستغفار في
الحقيقة فعل الكذَّابين قال الفضيل بن عياض –رضي الله عنه :
"استغفار بلا إقلاع عن الذنب توبة الكذَّابين".
جعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم
ارحمنا إذا عرق الجبين و َ كُثر الأنين، وبكى علينا الحبيب ويئس منا
الطبيب .. اللهم ارحمنا إذا وارانا التراب، وودعنا الأحباب، وفارقنا
النعيم. اللهم يا حي يا رحمن يا رحيم برحمتك نستعين، وصلِّ اللهم
وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
. ١) سورة الروم: ٤١ )
٨ رد البلاء بالاستغفار
الاستغفار في اللغة والاصطلاح
لغة: الاستغفار مصدر قولهم: استغفر يستغفر وهو مأخوذ من
مادة (غ ف ر) التي تدل على الستر في الغالب الأعم فالغفر الستر،
والغفر والغفران بمعنى واحد يقال: غفر الله ذنبه غفرا ومغفرة
وغفرانا، قال الشاعر في الغفر:
في ظل من عنت الوجوه له ملك الملوك ومالك الغفر
وقال ابن منظور: وإنك أنت الغفور الغفار يا أهل المغفرة.
غفر الله ذنوبه أي سترها واستغفر الله من ذنبه ولذنبه بمعنى،
فغفر له ذنبه مغفرة وغفرا وغفرانا.
وفي الحديث: غفَّار غفر الله لها: قال ابن الأثير : يحتمل أن
يكون دعاء لها بالمغفرة أو إخبار أن الله تعالى قد غفر لها، واستغفر
الله ذنبه على حذف الحرف، طلب منه غفره.
أنشد سيبويه:
استغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه القول
وتغافرا: دعا كل واحد منهما لصاحبه بالمغفرة. وامرأة غفور،
بغير هاءٍ( ١). وقال الراغب الأصفهاني: الغفر: إلباس ما يصونه عند
الدنس ومنه قيل: أغفر ثوبك في الدعاء واصبغ ثوبك فإنه اغفر
للوسخ، والغفران والمغفرة من الله أن يصون العبد من أن يمسه
العذاب، والاستغفار طلب ذلك بالمقال والفعال، وقيل: اغفروا الأمر
.٢٦-٢٥/ ١) لسان العرب ( ٥ )
رد البلاء بالاستغفار ٩
.( بغفرته، أي استروه بما يجب أن يستر به( ١
وقال الإمام الغزالي - رحمه الله - الغفار: هو الذي يظهر الجميل
ويستر القبيح، والذنوب من جملة القبائح التي سترها الله بإسبال الستر
عليها في الدنيا، والتجاوز عن عقوبتها في الآخرة، والغفر هو الستر.
الغفور والغفار وغافر الذنب من أسماء الله تعالى الحسنى التي تُضَم
إلى التسعة والتسعين أسما.
* * *
.( ١) المفردات في غريب القرآن للأصفهاني ( ٣٦٢ )
١٠ رد البلاء بالاستغفار
أما الاستغفار في الاصطلاح الشرعي:
تنوعت عبارات العلماء في تعريف الاستغفار، وتعددت كلماﺗﻬم
فيه، وكلها ﺗﻬدف إلى الكشف عن حقيقة وبيان معناه الشرعي
فالاستغفار من طلب الغفران، والغفران: تغطية الذنب بالعفو عنه،
الغفر الستر، ومنها قال الطبري –رحمه الله- "الاستغفار معناه: طلب
العبد من ربه غفران ذنوبه"( ١) لكن يرد على هذا التعريف أنه لم يبين
الأدعية التي يطلب ﺑﻬا الغفران، فتعريفه هذا تعريف مطلق، ف أي
أو غير استغفار دعا به المستغفر سواءً كان مأثورًا عن الله ورسوله
مأثور عنهما فإن هذا التعريف يشمله.
وقال أهل الكلام: "الاستغفار طلب المغفرة بعد رؤية قبح
المعصية، والإعراض عنها".
وعرفه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "الاستغفار هو طلب
المغفرة، وهو من جنس الدعاء، والسؤال، وهو مقرون بالتوبة في
الغالب، ومأمور به، لكن قد يتوب الإنسان ولا يدعو، وقد يدعو ولا
.( يتوب"( ٢
والاستغفار في القرآن الكريم على وجهين : أحدهم ا نفس
٣). وفي سورة ) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّ ُ كمْ : الاستغفار، ومنه في سورة هو
.٦٨/ ١) تفسير الطبري ٢٦ )
.١٨١- ١٨٠ / ٢) منهاج السنة النبوية لابن تيمية: ٢ )
. ٣) سورة هود: ٩٠ )
رد البلاء بالاستغفار ١١
اسْتَغْفِرُوا : ١). وفي سورة نوح ) وَاسْتَغْفِ ِ ري لِ َ ذنِْبكِ : يوسف
.(٢) رَبَّ ُ كمْ
وَاْلمُسْتَغْفِ ِ رينَ : والثاني: الصلاة ومنه سورة آل عمران
٤)، وفي ) وَهُمْ يَسْتَغْفِرُو َ ن : ٣). وفي سورة الأنفال ) ِباْلَأسْحَا ِ ر
٥)، وقد ذهب إلى ) وَِبالْأَسْحَا ِ ر هُمْ يَسْتَغْفِرُو َ ن : سورة الذاريات
.( أن الآية التي في سورة هود والتي في سورة نوح بمعنى التوحيد( ٦
( تعبير الاستغفار في الرؤية( ٧
استغفار الإنسان في المنام يدل على سعة الرزق، ومن استغفر من
غير صلاة يدل ذلك على الزيادة في العمر، وربما دل الاستغفار على
النصر ودفع البلايا، ومن رأى أنه يستغفر الله فإن الله يغفر له ويرزقه
مالا وولدا وخادما وجنانا وأﻧﻬارا. فإذا رأى أنه سكت عن الاستغفار
فإنه منافق ومن رأى كأنه يستغفر الله تعالى رُزق مالا حلالا وولدا.
فإن رأى كأنه فرغ من الصلاة ثم استغفر الله تعالى ووجهه إلى القبلة
فإنه يستجاب وعاؤه، وإن كان إلى غير القبلة يذنب ذنب ا ويت وب
عنه.. والله أعلم.
. ١) سورة يوسف: ٢٩ )
. ٢) سورة نوح: ١٠ )
. ٣) سورة آل عمران: ١٧ )
. ٤) سورة الأنفال: ٣٣ )
. ٥) سورة الداريات: ١٨ )
٦) سورة ق، والقرآن اﻟﻤﺠيد، ص ٨٤٥ ، مدينة الطيبات العالمية للعلوم والمعرفة، جدة. )
٢٩ ، دار المعرفة - ٧) تعطير الأنام في تعبير المنام، الشيخ عبد الغني النابلسي، ص ٢٨ )
بيروت.
١٢ رد البلاء بالاستغفار
( الاستغفار في البيان الإلهي( ١
أمر الله –عز وجل- عباده بالاستغفار وحثهم عليه ووعدهم
على ذلك بالمغفرة والثواب العظيم، والعطاء الجزيل، ومن أصدق من
الله قيلا نذكر منها ما يلي:
غَافِ ِ ر الذَّنْ ِ ب وَقَاِب ِ ل التَّوْ ِ ب شَدِيدِ اْلعَِقا ِ ب ذِي : * قال تعالى
.(٢) الطَّوْ ِ ل َلا ِإَلهَ ِإلَّا هُوَ ِإَليْهِ الْمَصِيرُ
الشرح:
الله غافر ذنوب المستغفرين، وقابل توبة التائبين، الذي يرحم
المنيبين، وهو شديد العقاب على من تجاوز حدوده واستهان بأمره
وأصر على ذنبه، وهو صاحب التفضل على العباد وصاحب الإنعام
على الخليقة، لا معبود بحق سواه ولا إله غيره، ولا شريك له، إليه
يعود الخلق لإحقاق الحق ومجازاة كل بما يستحق.
َفاصِْبرْ ِإنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِ َ ذنِْبكَ : * وقال تعالى
.(٣) وَسَبِّحْ ِبحَمْدِ رَبِّكَ ِبالْعَشِيِّ وَاْلِإبْ َ كا ِ ر
١) الشروح مقتبسة من كتاب التفسير الميسر للشيخ عائض القرني، مكتبة العبيكان، )
الرياض.
. ٢) سورة غافر: ٣ )
. ٣) سورة غافر: ٥٥ )
رد البلاء بالاستغفار ١٣
الشرح:
أيها الرسول أصبر على تكذيب الكفار وأذى الفجار، فإن الله
وعدك بالنصر والتمكين والرفعة، وهو –سبحانه- لا يخلف ما وعد،
بل يُنجزه لك وقد حصل هذا، وعليك بالاستغفار من الذنوب،
فبالاستغفار تنال رضى الواحد القهار وتنجو من الأخطار، ونزِّه ربك
ومجِّده بالتسبيح الذي تنفي فيه النقص عن الله المقرون بالحمد الذي
هو إثبات الكمال له سبحانه في كل مساء وكل صباح.
َفاعَْلمْ َأنَّهُ َلا ِإَلهَ ِإلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِ َ ذنِْبكَ : * وقال تعالى
.(١) وَلِلْمُؤْمِِنينَ وَاْلمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعَْلمُ مُتََقلَّبَكُمْ وَمَْثوَا ُ كمْ
الشرح:
فاعلم –أيها الرسول- أنه لا يستحق العبادة إلا الله، وأنه لا
شريك له، واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات، والله يعلم
حركتكم بالنهار في الأعمال، واستقراركم بالليل للراحة من
الأشغال، وفي الآية الجمع بين التوحيد والاستغفار والعلم والعمل.
وَسَا ِ رعُوا ِإَلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّ ُ كمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا : * وقال تعالى
.(٢) السَّمَوَاتُ وَاْلَأرْضُ ُأعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
. ١) سورة محمد: ١٩ )
. ٢) سورة آل عمران: ١٣٣ )
١٤ رد البلاء بالاستغفار
الشرح:
بادروا –أيها المؤمنون- وعجلوا- أيها المتقون- ما يوجب لكم
مغفرة ربكم وما تستحقون به دخول جنة مولاكم إلى جنة عرضه ا
عرض السموات والأرض، والفوز برضوانه ونيل النعيم الذي أعده
لأوليائه، وذلك بفعل الطاعات وترك المحرمات، فإن من عمل صالحا
وأكل حلالا وقال خيرا، وأمر بالمعروف وﻧﻬى عن المنكر وسابق في
الخيرات استحق أن يتجاوز الله –عز وجل- عن سيئاته، وأن يُعظم
حسناته، ويرفع درجاته في جناته.
وَالَّذِينَ ِإ َ ذا َفعَلُوا فَاحِشًَة َأوْ َ ظَلمُوا َأنُْفسَهُمْ : * وقال تعالى
َ ذ َ كرُوا اللَّهَ فَاسْتَغَْفرُوا لِ ُ ذنُوِب ِ همْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ ِإلَّا اللَّهُ وََلمْ
.(١) يُصِرُّوا عََلى مَا َفعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُو َ ن
الشرح:
ومن صفات هؤلاء المتقين أﻧﻬم إذا ارتكبوا كبيرة أو اقترفو ا
جريرة وظلموا أنفسهم باعتدائهم على غيرهم، عادو ا إلى رﺑﻬم
سبحانه فتذكروا عقابه وما أعد لمن عصاه فاستغفروا الله من الخطيئة،
وسألوه المغفرة، وندموا على ما فعلوا، وتأسفوا عمَّا اقترفوا، وعلموا
أنه لا يغفر الذنب، ولا يتجاوز عن الخطأ، ولا يعفو عن السيئة إلا الله
الواحد الأحد، ولم يداوموا على هذه المعاصي، ولا يَلِجوا في الخطأ،
. ١) سورة آل عمران: ١٣٥ )
رد البلاء بالاستغفار ١٥
ولا يستمروا على الذنب، ولا ينهمكوا في الإجرام، بل أصبح عندهم
من القلق والاضطراب والأسف والندم على ما فعلوا م ا يوجب
معرفتهم بقبح الذنب، ويعلمهم أنه يجب عليهم التوبة، ويعلمهم أن
الله يغفر الذنوب جميعا، فيحملهم ذلك على التوبة والاستغفار
والمبادرة إلى طلب العفو من العزيز الغفار.
.(١) وَاسْتَغْفِ ِ ر اللَّهَ ِإنَّ اللَّهَ كَا َ ن َ غُفورًا رَحِيمًا : * وقال تعالى
الشرح:
وعليك أن تستغفر ربك إن كنت هممت أن تُدافع عن خائن أو
تجادل عن منافق، فإن الله –سبحانه وتعالى- يتجاوز عن خطئك،
ويغفر لك ويرحمك، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر، وفيه
أن من وقع منه مثل هذه النية، فعليه أن يستغفر ربه ويتوب إليه جل
في علاه.
وَمَنْ يَعْمَ ْ ل سُوءًا َأوْ يَ ْ ظلِمْ نَفْسَهُ ُثمَّ يَسْتَغْفِ ِ ر : * وقال تعالى
.(٢) اللَّهَ يَ ِ جدِ اللَّهَ َ غُفورًا رَحِيمًا
الشرح:
ولكن المسلم إذا وقع منه السوء وظلم نفسه بارتكاب معصية،
. ١) سورة النساء: ١٠٦ )
. ٢) سورة النساء: ١١٠ )
١٦ رد البلاء بالاستغفار
ثم ندم واستغفر وأناب وتأسف على ما فعل وعاد إلى ربه بطلبه
الغفران منه يجد ربه كريما، فإن الله أكرم من العبد، رحيم يتجاوز عنه
ويقابل الإساءة بالإحسان، والمعصية بالغفران، ويتغمده بالرضوان،
ويسكنه الجنان، فلا أحسن من التوبة إلى الله، ولا من استغفاره جل
في علاه. والآيات في الاستغفار كثيرة ومعروفة فقط أوردنا بعض
الآيات مع الشرح.
الاستغفار في البيان النبوي
ومن الأحاديث الواردة في الاستغفار حيث كان الرسول
يستغفر ربه ويتوب إليه ويتضرع بين يديه امتثالا لأمر الغفار –عز
.(١) َفسَبِّحْ ِبحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ِإنَّهُ كَا َ ن تَوَّابًا : وجل- في قوله
* فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله
والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين » : يقول
.(٢)« مرة
* وروي في سنن أبي داود والترمذي عن ابن مسعود –رضي الله
من قال: استغفر الله الذي لا إله إلا » : عنه- قال: قال رسول الله
هو الحي القيوم وأتوب إليه، ُ غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من
.(٣)« الزحف
. ١) سورة النصر: ٣ )
٢) رواه البخاري. )
٣) قال الحاكم: حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم. )
رد البلاء بالاستغفار ١٧
: * وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله
والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم، ولجاء بقوم »
.(١)« يُذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم
إن كنت َألممت » :- لعائشة –رضي الله عنها * وقال النبي
فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب،
.(٢)« تاب الله عليه
خيار أمتي الذين يشهدون أن لا إله » : أنه قال * وعن النبي
إلا الله وإني رسول الله، الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساؤوا
استغفروا. وشرار أمتي الذي ولدوا في النعيم فُلذُّوا به، إنما همتهم
.(٣)« ألوان الطعام والثياب ويتشدَّقون في الكلام
* وعن حذيفة بن اليمان –رضي الله عنه- قال: كان في لساني
.( َذرَبٌ( ٤
إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، » : * وقوله
فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد حتى يعلو قلبه ذاك
بَ ْ ل رَا َ ن عََلى ُقُلوِب ِ همْ : الران الذي ذكره الله عز وجل في القرآن
.(٦) (٥) مَا َ كانُوا يَ ْ كسِبُو َ ن
١) رواه مسلم. )
٢) رواه البخاري. )
.١٢٠/ ٣) رواه أبو نعيم في الحلية: ٦ )
٤) الذرب: الحاد. واللسان الذرب: الشتَّام الفاحش الذي لا يبالي ما قال. )
. ٥) سورة المطففين: ١٤ )
٢٩٧ ، واللفظ له، وابن ماجه في السنن. / ٦) رواه الإمام أحمد في مسنده: ٢ )
١٨ رد البلاء بالاستغفار
* وفي حديث عبد الله بن عمرو –رضي الله عنه- أن أبا بكر –
رضي الله عنه- قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي،
قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب » : قال
إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور
.(١)« الرحيم
إذا فرغ من دفن * بالاستغفار يُودع الميت: لذا فقد كان النبي
استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت، فإنه » : الميت. وقف عليه فقال
.(٢)« الآن يُسأل
: * وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله
إن الله –عز وجل- ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: »
.(٣)« يا رب أن لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك
١) رواه مسلم. )
٢) رواه أبو داود. )
٣) رواه الإمام أحمد. )
رد البلاء بالاستغفار ١٩
تعزَّ بأهل البلاء
تَلفَّتْ يُمنة ويُسرى، فهل ترى إلا مُبتلى؟ وهل تشاهد إلا منكوبا
في كل دار نائحة، وعلى كل خدٍّ دمعٌ وفي كل واد بنو سعد.
كم من المصائب، وكم من الصابرين، فلست أنت وحدك
المصاب، بل مصابك أنت بالنسبة لغيرك قليل، كم من مريض على
سريره من أعوام، يتقلب ذات اليمين وذات الشمال، يئن من الألم،
ويصيح من السقم.
كم من محبوس مرَّت به سنوات ما رأى الشمس بعينه، وم ا
عرف غير زنزانته؟ كم من رجل وامرأة فقدا َفَل َ ذات أكبادهما في ميعة
الشباب وريعان العمر؟ وكم من مكروب ومدين ومصاب
ومنكوب.
آن لك أن تتعظ ﺑﻬؤلاء، وأن تعلم علم اليقين أن هذه الحياة
سجن للمؤمن ودار للأحزان والنكبات، تُصبح القصور حافلة بأهلها
وتمسي خاوية على عروشها، يبنيها الشمل مجتمع والأبدان في عافية،
والأموال وافرة، والأولاد كثر، ثم ما هي إلا أيام فإذا الفقر والموت
وَتَبَيَّنَ َل ُ كمْ كَيْفَ َفعَلْنَا ِب ِ همْ : والفراق والأمراض. قال تعالى
.(١) وَضَرَبْنَا َلكُمُ اْلَأمَْثا َ ل
فعليك أن توطِّن مصابك بمن حولك، وبمن سبقك في مسيرة
الدهر، ليظهر لك أنك معافى بالنسبة لهؤلاء، وأنه لم يأتك إلا وخزاتٌ
. ١) سورة إبراهيم: ٤٥ )
٢٠ رد البلاء بالاستغفار
سهلة، فاحمد الله على لطفه، واشكره على ما أبقى، واحتسب ما أخذ
قدوة وقد وُضع السَّلى على واتعظ بمن حولك ولك في الرسول
رأسه، وُأدميت قدماه وشُجَّ وجهه، وحُوصر في الشِّعْب حتى أكل
ورق الشجر، وطرد من مكة، وكسرت ثنيته، ورُمي عرض زوجته
الشريفة، وُقتل سبعون من أصحابه، وفقد ابنه، توفي أكثر بناته في
حياته، وربط الحجر على بطنه من الجوع واتُّهم بأنه شاعر ساحر
كاهن مجنون كاذب، صانه الله من ذلك، وهذا بلاء لابد منه
وتمحيص لا أعظم منه، وقد ُقتل زكريا، وُذبح يحيى، وهُجر موسى.
ووضع الخليل في النار، وسار الأئمة على هذا الطريق فضُرِّج عمر
بدمه واغتيل عثمان، و ُ طعن عليٌّ وجُلدت ظهور الأئمة وسُجن
َأمْ حَسِبْتُمْ َأ ْ ن تَ دْخُُلوا اْلجَنََّة : الأخيار ونُكِّل الأبرار قال تعالى
وََلمَّا يَْأتِ ُ كمْ مََثلُ الَّذِينَ خََلوْا مِنْ َقبْلِ ُ كمْ مَسَّتْهُمُ اْلبَْأسَاءُ وَالضَّرَّاءُ
.(٢) (١) وَزُلِْ زلُوا
( واجب المؤمن نحو الشدائد الخمس( ٣
إذا كان هذا حال هذه الشدائد الخمس في حياة المسلم، فإنه
يجب عليه أمور تجاه هذه الشدائد، وذلك حتى يسلم منها، وينجو من
أذاها، أو تفادى أذاها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وعند النظر
والتأمل، فإن المؤمن لابد من أمور تُحصِّنه من هذه الشدائد الخمس،
. ١) سورة البقرة: ٢١٤ )
١٤٢٨ ه- ٢٠٠٧ م – - ٢) هكذا هزموا اليأس، سلوى العضيدان، ص ١٩٦ ، ط ١ )
الناشر نفسها.
٣) فقه الابتلاء، محمد أبو صعيليك، ص ١٠ ، دار البيارق، عمان- الأردن. )
رد البلاء بالاستغفار ٢١
ليسلم منها، وهذه الأمور المطلوبة منه، نذكره ﺑﻬا هنا كما يلي:
أولا: اللجوء إلى الله تعالى:
ذلك أن من لجأ إلى الله تعالى واستجار بحماه أجاره وحماه، وأبعد
عنه كل ما يخيفه، ذلك لأن هذه الشدائد المذكورة لا يسلم منها إلا
الله ولا يُنجي منها سواه، أليس هو الذي يندب عباده إلى الفرار إليه
١). أليس هو الذي تعهد بكشف الضُّرِّ والسوء ) َففِرُّوا ِإَلى اللَّهِ
.(٢) وَيَكْشِفُ السُّوءَ
أليس هو الذي يصرف عن عباده كل م ا يخيفهم في الدني ا
والآخرة؟ إن واجبهم أن يلجأوا إليه سبحانه في كل لحظة وحين، لأن
المدافع عن الدين والحافظ له، والذي خلَّص الدعاة إلى الله تعالى من
الفتن هو الله، ومن يستجير بحماه يُجار، ومن يرفع ظلامته إلي ه
يُنصف، ومن يوكل أمره إليه يَسلم، ومن أولى باللجوء إليه من الله؟
ومن أعرف بطريق الله من المؤمن؟ ومن أحرى منه باللجوء إلى ربه
سبحانه وتعالى؟ ليخلصه من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، ويؤمن
روعته في يوم يراع فيه الناس إلى من رحم الله.
ثانيا: الصبر:
لابد لمن بلي ﺑﻬذه الشدائد الخمس من صبر يتزود به، ويعينه على
لأواء الطريق – وخاصة لأن بعض هذه الشدائد قد تأتيه ممن لا يحل له
قتله كالمؤمن الذي يحسده، والمنافق الذي يبغضه، وهذا يحوجه إلى
. ١) سورة الذاريات: ٥٠ )
. ٢) سورة المائدة: ٦٢ )
٢٢ رد البلاء بالاستغفار
مزيد صبر حتى يضيع على هؤلاء فرصتهم في أذاه، ويعمل على
الخلاص من الأذى الذي مظنة له، وهذا يشمل كل مسلم بشكل
عام، والدعاة بشكل خاص؛ لأن هؤلاء أولى الناس بالصبر والتحلي
بالأخلاق الفاضلة، وذلك حتى تتم دعوﺗﻬم لله.
وتخلص أعمالهم له، وفي نصيحة هؤلاء الدعاة يقول الأستاذ
فتحي يكن- حفظه الله: "أما دعاة الإسلام فإن عليهم إن ابتلوا بمن
يحسدهم أن يتذرَّعوا بالصبر والصلاة، ويعوذوا بالله من شرور نفوس
الناس، وشرور ظلمهم وحسدهم، ولا يخرجنهم الغضب إلى الرد
والكيد وإلى اتباع غير سبيل المؤمنين؛ لأﻧﻬم بذلك يصبحون مثلهم،
ويخسرون تميزهم وخُلقهم ودينهم، والأولى أن ينفقوا مما عندهم من
خير ويحتسبوا ما يصيبهم عند الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض
ولا في السماء".
ثالثا: الحذر:
لابد لمن أحاطت به تلك الشدائد الخمس والتي هي ملمات
تكسر الظهر وتؤذي النفس، وتعطل العمل من أن يكون حذرا،
فيحذر من المؤمن الحاسد أن يؤذيه بحسده، ومن المنافق المبغض أن
يؤدي به بغضبه إلى آذه بالكيد والمؤامرات التي يحكيها له في الليل
والنهار، ومن الكافر الذي يقاتله بكل وسيلة وفي كل زمان ومكان،
ومن الشيطان الذي أخذ عهدا على نفسه أن يعمل على إضلاله م ا
استطاع إلى ذلك سبيلا، ومن النفس، تلميذة الشيطان الذي لا تكاد
تترك التفلُّت والمنازعة لإطاعة أوامر الشيطان وعصيان أوامر الرحمن.
رد البلاء بالاستغفار ٢٣
إن من يحيط به هؤلاء الخمسة لهو أحوج الناس إلى الحذر
والحيطة، ليسلم من سهام هؤلاء التي لا تكاد تخطؤه، ولئن كان
المسلم الملتزم بحاجة إلى الحذر، فإن أولئك الدعاة أشد الناس حاجة
إلى الحذر.
رابعا: العفو:
لابد للمؤمن المبتلى من العفو عمن ظلمه، وخاصة في مواجهة
المؤمن الحاسد له، والذي هو أحد الشدائد الخمس المسلطة عليه،
والعفو خصلة من كرام خصال المؤمنين، وقد وصف الله تعالى
.(١) وَالْعَافِينَ عَ ِ ن النَّا ِ س وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِِنينَ : المؤمنين فقال
وَِإنْ تَعُْفوا وَتَصَْفحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ : وندبنا إليه فقال
٢). والعفو أداة مهمة في يد الداعية إلى الله تعالى ) غَفُورٌ رَحِيمٌ
يستجلب ﺑﻬا القلوب، ويدخل ﺑﻬا إلى النفوس، ويرد ﺑﻬ ا سهام
الحاسدين عن نفسه، وهو أحرى الناس بالعفو عن غيره؛ لأن الناس
يأملون منه أكثر مما يؤملون من غيره، ويتوسمون فيه الخير، وإن من
الأمور الخيِّرة التي تتوسم فيه عفوه عمن ظلمه وصفحه عنه، وم ا
أحوج الدعاة إلى الله تعالى في هذه الأيام إلى مثل هذه المسألة
وتطبيقها عمليا ليسلم لهم قيادة أنفسهم، وبالتالي يسلم الناس إليهم
قيادة أمورهم، بما يروا في حياﺗﻬم من جوانب القدوة المشرقة التي
تجلب الاتباع وتسر المؤمنين، وترد كيد الكافرين، فهذا أمر واجب
. ١) سورة آل عمران: ١٤٢ )
. ٢) سورة التغابن: ١٤ )
٢٤ رد البلاء بالاستغفار
ينبغي لمن تصدر لدلالة الناس على الله تعالى أن يتمثل ﺑﻬذا ويعمل به
لتُثمر دعوته وتؤتي أكلها في حياة الناس والله المستعان.
خامسا: تربية النفس:
لابد للمؤمن الذي تحيط به هذه الشدائد الخمس من تربية نفسه
تربية صحيحة، وذلك حتى يفوت على هؤلاء الأعداء الخمسة أي
فرصة لإيقاع الأذى به، وعند النظر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله
نجد أن التربية الصحيحة للنفس لابد أن تسير وفق مسائل ثلاثة،
وهذه الأمور هي:
- المحاسبة: حيث يعمل المرء على محاسبة نفسه على كل صغير
وكبير.
- المراقبة: وهي أن يراقب المرء نفسه ليمنعها من شهواﺗﻬا، ومن
معصية الله سبحانه وتعالى.
- واﻟﻤﺠاهدة: وهي أن يحمل المرء نفسه على الطاعة حملا، ولا
يترك لها مجالا لمنازعته نحو المعصية، فإذا تمت له هذه الأمور الثلاثة
تسلم نفسه له قيادﺗﻬا، ويعينه الله عز وجل عليها فإذا استقام حاله،
واستوت نفسه، وقل فيه حظ الشيطان. فإنه عندئذ يسلم من تلك
الشدائد الخمس.
وينجو من تلك الآفات، وذلك بسبب قربه من ربه سبحانه
وتعالى، الذي يمنع عنه كل أذى، ويُبعد عنه كل سوء، ويُسلمه من
كل شر، فإذا كان حاله كذلك سلمه الله تعالى من شر المؤمن
الحاسد، فأخفاه، ومن شر المنافق الذي يبغضه ويكيد له المكائد،
رد البلاء بالاستغفار ٢٥
ويخلصه من أذاها له والذي يعينه على شر نفسه ومنازعته ا له إلى
المعصية، كما يعينه على الخلاص من إضلال الشيطان له. وإبعاده عن
طريق الله تعالى، فإذا تربَّت النفس تَحقَّق لها الحماية من كل هذه
الشرور والشدائد الخمسة، التي أعجزت بني آدم ولا سلامة منها إلا
بالاستعانة بالله تعالى، والله المستعان.
فوائد الشدائد( ١
الشدائد التي تصيب المسلم في حياته بشتى الصور، لابد لها من
فوائد فبالرغم من أﻧﻬا مكروهة للنفس، إلا أن الله يكفر ﺑﻬا الخطايا،
ويرفع ﺑﻬا الدرجات، كما أن الكرب يدفع بالمكروب إلى التوبة،
فيلجأ إلى الله وينكسر بين يديه، وهذا الانكسار أحب إلى الله من
كثير من العبادات، فما أجمل أن ينكسر المخلوق لله، ويشعر بذلة
أمامه، ويشعر بحاجته إليه وافتقاره إلى خالقه، فينقطع إلى الخالق
ويترك المخلوق، وهنا يتحقق التوحيد وينتفي من أدران الشرك
أدعية إذا بأنواعها، ويخلص الإنسان لربه. وقد علمنا رسول الله
نزل بنا الكرب، واشتدت الأمور، وضاقت علينا الأرض بما رحبت
فقد جاء في الصحيحين عن ابن عباس –رضي الله عنهما- أن رسول
لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله » : كان يقول عند الكرب الله
إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب
يا حي » : إذا حزبه أمر قال وكان .« الأرض رب العرش الكريم
وقال عليه الصلاة والسلام لأسماء بنت « يا قيوم برحمتك أستغيث
١٤٢٨ ه - ٢٠٠٧ م. ، ١) هكذا هزموا اليأس، سلوى الضيدان، ص ٢٣٨ ، ط ١ )
٢٦ رد البلاء بالاستغفار
ألا أعلمك كلمات تقولهن عند الكرب: الله ربي لا أشرك » : عُميس
من أصابه هم أو غم أو » : وقال عليه الصلاة والسلام .« به شيئا
وعن « سَقمٌ أو شدةٌ فقال: الله ربي لا شريك له، كشف ذلك عنه
دعوة المكروب: اللهم رحمتك » : قال أبي بكرة أن رسول الله
أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله
دعوة ذي النون إذ دعا ﺑﻬا في بطن الحوت: » : وقال .« إلا أنت
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لا يدعو ﺑﻬا رجل
.« مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له
مظاهر الابتلاء
أولا: الابتلاء بالشر:
وله عدة صور منها ما يلي:
١- أن يبتلي الله المؤمن بفقد عزيز عليه كأبيه أو أمه أو ولده.
٢- أن يبتلى المؤمن بفقد جزء من جسمه كذهاب بصره، أو
سمعه، أو رجله، أو يده.
٣- ابتلاء المؤمن بمرض عُضال أو فتاك، أو يُبتلى بالخوف
والجوع وضيق الرزق. قال تعالى: إشارة إلى تعدد مظاهر الابتلاء :
وََلنَبْلُوَنَّكُمْ ِبشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَاْلجُو ِ ع وَنَقْ ٍ ص مِنَ الْأَمْوَا ِ ل
.(١) وَالَْأنْفُ ِ س وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّ ِ ر الصَّاِب ِ رينَ
٤- ومن أعظم ما يبتلى به المؤمن من صور الابتلاء بالشر هي
. ١) سورة البقرة: ١٥٥ )
رد البلاء بالاستغفار ٢٧
المصيبة في الدين، فهي القاصمة والمهلكة والنهاية التي لا ربح معها،
وعموما فإن مصاب الدين لا فداء له، فهو أعظم من مصيبة النفس
والمال؛ لأن المال يخلفه الله تعالى، وهو فداء الأنفس، والنفس فداء
الدين، والدين لا فداء له( ١) ذلك أن كل مصيبة في دنيا الإنسان قد
.( تعوض بخير منها أو مثلها، أما مصيبة الدين فحسرة لا تُعوَّض( ٢
٥- الابتلاء بالسيئات أو المعاصي، وهذه قد تَخفى حكمته على
.( الكثيرين إذ قد يراد به "اختبار الصدق في الإيمان"( ٣
ويشير ابن القيم –رحمه الله- إلى ثمرة هذا الابتلاء بقوله: "لو لم
تكن التوبة أحب إلى الله لما ابتلى بالذنب أكرم المخلوقات عليه –آدم
عليه السلام- فالتوبة هي غاية كل كمال آدمي وقد كان كمال أبينا
.( آدم –عليه السلام- ﺑﻬا"( ٤
ثانيا: الابتلاء بالخير:
ويقصد به اختبار الله تعالى عبده المسار ليشكره وله صور شتى
منها:
فو الله م ا » : ١- أن يبتلى العبد بالغنى وكثرة العرض: قال
الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا
كما بُسطت على من كان قبلكم فتَنافِسوه ا كم ا تنافسوه ا
. ١) انظر تسلية أهل المصائب لأبي عبد الله المنجي، ص ١٩ )
. ٢) الإيمان والحياة للدكتور الشيخ يوسف القرضاوي، ص ١٩٦ )
. ٣) موسوعة نضرة النعيم، ص ١٢ )
. ٤) مفتاح دار السعادة لابن قيم، ج ١، ص ٢٨٦ )
٢٨ رد البلاء بالاستغفار
.(١)« وتُلهيكم كما ألهتهم
إني مم ا أخاف » : ٢- ابتلاؤه بزينة الدنيا وزهرﺗﻬا. قال
.(٢)« عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها
٣- الابتلاء بحب الرياسة والجاه، فيطلبها ويحرص عليها فيكون
إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون » : فيها هلاكه. لقوله
.(٣)« ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة
٤- ويدخل في هذا المظهر ابتلاء العبد بالطاعات ليشكر ربه
على ما هداه إليه، فضرب الله لنا أروع الأمثلة: بإبراهيم –عليه
السلام- لما ابتلاه الله بذبح ولده وفلذة كبده فأراد أن يمضي تلك
وَنَادَيْنَاهُ َأ ْ ن يَا ِإبْرَاهِيمُ * َقدْ : الطاعة لربه فناداه الله تعالى بقوله
صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ِإنَّا َ ك َ ذلِكَ نَجْ ِ زي الْمُحْسِِنينَ * ِإنَّ هَ َ ذا َلهُوَ الْبََلاءُ
.(٤) الْمُِبينُ
والابتلاء بالخير هو أشد البلاء؛ لأن القيام بحقوق الصبر أيسر من
القيام بحقوق الشكر. فصارت المنحة أعظم البلاءين لهذا قال عمر بن
الخطاب –رضي الله عنه-: "بلينا بالضراء فصبرنا، وبلينا بالسراء فلم
نصبر". وقال علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-: "من وُسِّع عليه في
.( دنياه فلم يعلم أنه قد مُكر به فهو مخدوع في عقله"( ٥
١) صحيح البخاري. )
٢) صحيح البخاري. )
٣) صحيح البخاري. )
.١٠٦- ٤) سورة الصافات: ١٠٤ )
. ٥) بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي، ج ٢، ص ٢٧٥ )
رد البلاء بالاستغفار ٢٩
أخي القارئ: فالبلاء يكون حسنا ويكون سيئا كم ا أسلفن ا
وأصله المحنة، والله عز وجل يبلو عبده بالصنيع الجميل ليمتحن
شكره، ويبلو بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره، عن عبد الله بن
ي ا » : فقال عمر –رضي الله عنهما- قال: أقبل علينا رسول الله
.« معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتهم ﺑﻬن، أعوذ بالله أن تدركوهن
١-لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا ﺑﻬا إلا فشي ﺑﻬم
الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا.
٢- ولم يقتصوا المكيال والميزان، إلا ابتلوا بالسنين، وشدة المؤنة،
وجور السلطان عليهم.
٣- ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا
البهائم لم يمطروا.
٤- ولم ينقضوا عهد الله ورسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من
غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيدهم.
٥- وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا فيما أنزل الله عز
.(١)« و جل إلا جعل الله بأسهم بينهم
وبين الله –عز وجل- سبب الابتلاءات، كرغد العيش، أو
ضيقه، واعتدال المناخ أو قسوته، كالزلازل والبراكين والفيضانات
َ ظهَرَ الْفَسَادُ فِي : والأعاصير والقحط، وما أشبه ذلك في قوله تعالى
الْبَرِّ وَالْبَحْ ِ ر ِبمَا َ كسَبَتْ َأيْدِي النَّا ِ س لِيُذِيَقهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا
. ١) سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، باب العقوبات، ص ٩١١ ، حديث رقم: ٤٠١٩ )
٣٠ رد البلاء بالاستغفار
.(١) َلعَلَّهُمْ يَرْجِعُو َ ن
أي ظهرت المعاصي في البر والبحر. فحبس الله عن الناس الغيث
.( وأغلى سعرهم ليذيقهم عقاب بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون( ٢
قيل: "إن الله يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات اختبارا
لهم ومجازاة على صنيعهم، لعلهم يرجعون عن المعاصي".
سؤال( ٣)، لم شدد البلاء على الأفاضل؟
الجواب: قيل لأن الله تعالى يبغض الدنيا، وامتحن الأولياء فيه ا
كي لا يميلوا إليها وهي مبغوضة وأيضا ليكثر الأجر لهم.
فإن قيل: لم حجب عنهم الدنيا؟
قيل: ليتفرغوا لطاعته ولا يشتغلوا ﺑﻬا عنه فتحملهم على المعصية،
َفَلمَّا نَسُو ا مَا : فربما تكون النعمة سببا للمعصية، لقوله تعالى
ُ ذكِّرُوا ِبهِ َفتَحْنَا عََليْ ِ همْ َأبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى ِإ َ ذا َف ِ رحُوا ِبمَا ُأوتُوا
.(٤) َأخَذْنَاهُمْ بَغْتًَة َفِإ َ ذا هُمْ مُبْلِسُو َ ن
. ١) سورة الروم: ٤١ )
. ٢) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج ١٤ ، ص ١٤١ )
٣) كشف الأسرار عما خفي عن الأفكار، شهاب الدين الأقفهسي، تحقيق محمد خير )
١٤٢٦ ه - ٢٠٠٥ م. دار ابن حزم، بيروت. ، رمضان يوسف، ص ٦٠ ، ط ١
. ٤) سورة الأنعام: ٤٤ )
رد البلاء بالاستغفار ٣١
الابتلاء سنة من سنن الله في حياة الناس
رغم أن البلاء والابتلاء سنة ربانية في حياة البشر قال تعالى :
١)، إلا أنه ليس للمسلم أن يسأل الله ) لِيَبْلُوَكُمْ َأيُّ ُ كمْ َأحْسَنُ عَمًَلا
لا » : ألا نفعل ذلك فقال الابتلاء أو يتمناه فقد علمنا رسول الله
تتمنوا لقاء العدو، فإنكم لا تدرون لعلكم تبتلون به، ولكن قولوا
.(٢)« اللهم أكفناهم، وأكفف بأسهم
لذا جعل الله عز وجل الابتلاء والمحن سنة في حياة الناس، قال
َأحَسِبَ النَّاسُ َأ ْ ن يُتْرَكُوا َأ ْ ن يَُقوُلوا آَمَنَّا وَهُمْ َلا يُ ْ فتَنُو َ ن * : تعالى
وََلَقدْ َفتَنَّا الَّذِينَ مِنْ َقبْلِ ِ همْ َفَليَعَْلمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وََليَعَْلمَنَّ
.(٣) الْكَاذِِبينَ
وفي التعقيب على هذه الآية يقول الأستاذ سيد قطب –رحمه الله
تعالى- "هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت، وسنة جارية في ميزان الله
سبحانه" ويقول أيضا: "أﻧﻬا سنة العقائد والدعوات، لابد من بلاء
ولابد من أذى في الأموال والأنفس، ولابد من صبر ومقاومة واعتزام،
إنه الطريق إلى الجنة، وقد حُفت الجنة بالمكاره، بينما حُفت النار
.( بالشهوات"( ٤
وفي تفسير هذه الآية: أظن العباد أﻧﻬم إذا قالوا: آمنا تركوا على
. ١) سورة الملك: ٢ )
٢) رواه البخاري ومسلم. )
.٣- ٣) سورة العنكبوت: ٢ )
.١٨٠/ ٤) في ظلال القرآن: ٢ )
٣٢ رد البلاء بالاستغفار
هذه الدعوة لم يختبروا ويبتلوا؟ بلى سوف يختبرون بالبلاء ليظهر
الصادق من الكاذب، ولقد امتحن الله الأقوام السابقين بإرسال
الرسل إليهم، فظهر علم الله في صدق الصادق في إيمانه، وكذب
.( الكاذب في دعواه( ١
نزول البلايا بين المؤمن وغيره
نزول البلايا والمصائب لا يُختص به أحد دون أحد، فقد تنزل
بالبر والفاجر، والمسلم والكافر.
ولكن فرق بين نزولها على البر المؤمن، وبين نزولها على الفاجر
أو الكافر، فالمؤمن البارُّ يستقبلها برضا وسرور، فترتفع ﺑﻬا درجاته في
الدنيا والآخرة.
وكلما زيد في بلاء المؤمن فصبر واحتسب ورضي –أعانه الله-
ولطف به وأنزل عليه من السكينة والرضا، واليقين، والقوة م ا لا
يخطر ببال.
أما الفاجر والكافر، فيستقبلها ﺑﻬلع، وجزع، فتزداد مصائ به،
وتكون من عاجل العقوبة له. قال عمر بن العزيز –رضي الله عنه-:
"أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر، إن تكن السراء
.( فعندي الشكر، وإن تكن الضراء فعندي الصبر"( ٢
. ١) التفسير الميسر، الشيخ عائض القرني، ص ٥٦٥ )
١٤٢٨ ه، ٢٠٠٧ م، دار ، ٢) خواطر، د. محمد بن إبراهيم الحمد، ص ١٥٨ / ط ١ )
ابن خزيمة، الرياض.
رد البلاء بالاستغفار ٣٣
أخي القارئ: ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن
ليصيبك، جف القلم بما أنت لاق ولا حيلة لك في القضاء. فالبلاء
يقرب بينك وبين الله ويعلمك الدعاء، ويذهب عنك الكبر والعجب
والفخر.
وأعلم إنك لست الوحيد في البلاء، فما سلم من الهمِّ أحد وم ا
نجا من الشدة بشر. وتقين أن الدنيا دار مِحن وبلاء ومُنغصات وكدر
فاقبلها على حالها واستعن بالله.
ولا تجزع من المصائب، ولا تكترث بالكوارث، ففي الحديث :
إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط »
.(١)« فله السخط
ما يزال بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده » : قال رسول الله
.(٢)« وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة
( الخشية والخوف من الله من أسباب مغفرة الذنوب( ٣
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، حدثنا عبد الملك،
عن ربيعي بن حراش، قال: قال عقبة بن عمر لحذيفة: ألا تحدثنا م ا
إن رجلا كان » : قال: إني سمعته يقول ؟ سمعت من رسول الله
فيمن كان قبلكم، أتاه الملك ليقبض روحه، فقيل له: هل عملت
من خير؟ قال: ما أعلم، قيل له: انظر، قال: ما أعلم شيئا غير أني
١) مقالات الشيخ عائض القرني من كتابه لا تحزن. )
٢) مجالس الصالحين، د. عائض القرني. )
. ٣) سورة الأنعام: ٤٤ )
٣٤ رد البلاء بالاستغفار
كنت أبايع الناس في الدنيا، وأجازيهم فأنظر الموسر، وأتجاوز عن
إن رجلا حضره » : قال: وسمعته يقول « المعسر، فأدخله الله الجنة
الموت، فلما يئس من الحياة، أوصى أهله - إذا أنا مت، فأجمعوا لي
حطبا كثيرا وأوقدوا فيها نارا، حتى إذا أكلت لحمي، وخلصت إلى
عظمي، فامتحشت فخذوها فاطحنوها، ثم انتظروا يوم ا راح ا:
فاذروه في اليوم ففعلوا، فجمعه الله، فقال له: لم فعلت ذلك؟ قال:
قال عقبة بن عمرو: أنا سمعته يقول ذاك .« من خشيتك، فغفر الله له
وكان نباشا.
والشرح المختصر للحديث القدسي المذكور: قوله: وخلصت
بالبناء للفاعل، أو بالبناء « فامتُحشت » إلى عظمي، أي وصلت إليه
للمفعول أي احترقت.
هو بفتح الراء ممدود، وبحاء مهملة منونة، :« يوما راحا » : وقوله
ﺑﻬمزة وصل، وبذال معجمة، أي « فاذروه » : أي كثير الريح. وقوله
طيروه في الريح حتى لا يجتمع.
:« فجمعه الله » . أي فعلوا ما أوصاهم به أبوهم « ففعلوا » : وقوله
أي لم أوصيت ؟« لم فعلت ذلك » : أي جمع ذراته وأحياه وقال له
أي فعلت ذلك « قال: من خشيتك » ؟ بإحراقك وذروك في الريح
وكان » : وأوصيت به يا رب من خشيتك، وخوفا منك، فغفر الله له
أي كان هذا الرجل، مع أنه لم يفعل خير ا نباش ا للقبور « نبَّاشا
ويسرق أكفان الموتى وظاهره أن ذلك من قول عقبة، لكن أورد ابن
حبان من طريق ربعي عن حذيفة قال: توفي رجل كان نباشا، فقال
رد البلاء بالاستغفار ٣٥
؟( لولده: "أحرقوني" فهنا سؤال: هل الخوف أفضل أم الرجاء( ١
فالجواب: قال بعضهم: سواء لا يفضل أحدهما على الآخر.
ويقال: ما دام الرجل صحيحا فالخوف أفضل، وما دام مريض ا
فالرجاء أفضل.
ويقال: الخوف للعاصي أفضل، والرجاء للمطيع أفضل.
ويقال: الخوف قبل الذنب أفضل، والرجاء بعد الذنب أفضل
ويقال: الرجاء أفضل لأشياء أربعة:
أحدها: الرجاء إلى فضله، والخوف من عديه، والفضل أكرم من
العدل.
والثاني: الرجاء إلى الوعد، والوعد من بحر الرحمة، والخوف من
الوعيد والوعيد من بحر الغضب، ورحمته سبقت غضبه.
والثالث: الرجاء من الطاعة، والخوف من المعصية، ومن الطاعة
ما يعلو على المعاصي، كالتوحيد.
والرابع: الرجاء بالرحمة، والخوف من الذنوب، والذنوب ذو
ﻧﻬاية، والرحمة لا ﻧﻬاية لها.
ويقال الخوف أفضل منه، لأنه وعد بالخوف جنتين، ولم يعد
بالرجاء إلا جنة واحدة.
وأيضا الخوف يمنع من الذنوب، وترك الذنوب أفضل من فعل
. ١) سورة الأنعام: ٤٤ )
٣٦ رد البلاء بالاستغفار
الخيرات.
ويقال: من عَبدَ الله بالخوف فهو مؤمن، ومن عبد الله بالرض ا
فهو مرجئ ومن عبد الله بالحب فهو زنديق، ومن عبد الله بالثلاثة فهو
مستقيم.
* * *
رد البلاء بالاستغفار ٣٧
( لو بلغت ذنوبك عنان السماء...؟( ١
يقول : عن أنس –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله
قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك »
على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان
السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم، إنك لو
أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك
.(٢)« بقراﺑﻬا مغفرة
عنان السماء: قيل هو السحاب، وقيل هو ما عن لك منها، أي
ظهر:
وقارب الأرض: وهو ما يقارب ملأها. هذا من الأحاديث
القدسية.
وَقَا َ ل رَبُّكُمُ ادْعُوِني : وفيه: فضل الدعاء والرجاء. قال تعالى
.(٣) َأسْتَ ِ جبْ َل ُ كمْ
والرجاء يتضمن حسن « الدعاء مخ العبادة » : وقال النبي
.« أنا عند ظن عبدي بي » : الظن بالله، والله تعالى يقول
وفيه: الحث على الاستغفار. قال الحسن: أكثروا من الاستغفار
في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وأسواقكم، ومجالسكم،
. ١) تطريز رياض الصالحين، فيصل بن عبد العزيز آل مبارك، ص ١٠٧٢ )
٢) رواه الترمذي. )
. ٣) سورة غافر: ٦٠ )
٣٨ رد البلاء بالاستغفار
وأينما كنتم، فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة.
وقال قتادة: إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأم ا
داؤكم، فالذنوب، وأما دواؤكم، فالاستغفار.
وقال إبليس –لعنه الله-: أهلكت بني آدم بالذنوب، وأهلكوني
بلا إله إلا الله والاستغفار.
فما أسعد حال من دوام لا إله إلا الله واستغفر الله. فغاية الكمال
لرب العزة والجلال إفراده بالوحدانية وغاية كمال العبد التبرؤ من
الحول والقوة، والتطهر من الذنوب والسيئات.
قال بعض العارفين:
استغفر الله مما يعلم الله إن الشقي لمن لا يرحم الله
ما أحلم الله عمن لا يراقبه كل مسيء ولكن يحلم الله
فاستغفر الله مما كان من زلل طوبى لمن كفَّ عما يكره
طوبى لمن حُسنت منه طوبى لمن ينتهي عما ﻧﻬى الله
قال ابن القيم –رحمه الله- في معنى قوله: "يا ابن آدم لو أتيتني
بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقراﺑﻬ ا
مغفرة": يُعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه مالا ينبغي لمن
ليس كذلك، فلو لقي الموحد الذي لمن يشرك بالله البتة ربه بقراب
الأرض خطايا، أتاه بقراﺑﻬا مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده،
فإنه التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب؛ لأنه
رد البلاء بالاستغفار ٣٩
يتضمن من محبة الله وإجلاله، وتعظيمه، وخوفه، ورجائه، وحده م ا
يوجب غسل الذنوب، ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة،
والدافع قوي، ومعنى قراب الأرض ملؤها أو ما يقارب ذلك، ولكن
هذا مع مشيئة الله عز وجل، فإن غفر بفضله ورحمته، وإن شاء عذب
.( بعدله وحكمته، وهو المحمود على كل حال( ١
تأثر الحجر الأسود بالذنوب
أخي القارئ: ألا ترى أن الحجر الأسود مع صلابته وقساوته قد
تأثر بذنوب بني آدم وخطاياهم، وكان عند نزوله من الجنة أشد بياضا
من اللبن، فسودته خطايا بني آدم، كما ورد ذلك في الحديث المروي
نزل » : عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله
الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن؛ فسودته خطايا
.(٢)« بني آدم
أي صارت ذنوب بني آدم الذين يمسحون الحجر سببا لسواده،
والأظهر حمل الحديث على حقيقته إذ لا مانع نقلا ولا عقلا، وقال
بعض الشراح، والمعنى: أن الحجر الأسود لما فيه من الشرف والكرامة
وما فيه من اليمن والبركة شارك جواهر الجنة فكأنه نزل منها، وأن
خطايا بني آدم تكاد تؤثر في الجماد فتجعل المبيض منه أسودا فكيف
بقلوﺑﻬم. أو لأنه من حيث أنه مكفر للخطايا محَّاءٌ للذنوب كأنه من
١) موسوعة روائع الدعاء والأذكار، أحمد بن سالم بادويلان، ص ١٠٧ ، دار طويق )
للنشر والتوزيع.
٢) رواه أحمد والترمذي. )
٤٠ رد البلاء بالاستغفار
الجنة، ومن كثرة تحمله أوزار بني آدم صار كأنه ذو بياض شديد
فسودته الخطايا.
ومما يؤيد هذا أنه كان فيه نَُقط بيض ثم لا زال السواد يتراكم
إذا أذنب نكتت في قلبه نكتة » : عليها حتى عمَّها، وفي الحديث
سوداء فإذا أذنب نكتت فيه نكتة أخرى وهكذا حتى يسود قلبه
َ كلَّا بَ ْ ل رَا َ ن عََلى ُقُلوِب ِ همْ مَا َ كانُوا : جميعه ويصير ممن قال فيهم
١)، والحاصل أن الحجر بمنزلة المرآة البيضاء في غاية الصفاء ) يَ ْ كسِبُو َ ن
ويتغير بملاقاة مالا يناسبه من الأشياء حتى يسود لها جميع الأجزاء، وفي
الجملة الصحبة لها تأثير بإجماع العقلاء.
قال الحافظ ابن حجر: واعترض بعض الملحدين على هذ ا
الحديث فقال: كيف سودته خطايا المشركين ولم تبيضه طاعات أهل
التوحيد؟
وأجيب بما قال ابن قتيبة: لو شاء الله لكان ذلك، وإنما أجرى الله
العادة بأن السواد يصبغ ولا ينصبغ على العكس من البياض. وقال
المحب الطبري: في بقائه أسود عبرة لمن له بصيرة: فإن الخطايا إذا أثرت
في الحجر الصلد فتأثيرها في القلب أشد، ويروي عن ابن عباس –
رضي الله عنهما- إنما غيره بالسواد لئلا ينظر أهل الدني ا إلى زينة
الجنة، فإن ثبت فهذا هو الجواب.
إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة » : وقوله
سوداء، فإن تاب ونزع فاستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى
. ١) سورة المطففين: ١٤ )
رد البلاء بالاستغفار ٤١
.« تعلو قلبه فذلك الرَّان الذي ذكره الله
أخي في الله: إذا كان هذا حال الحجر الصلد الصلب مع حجارته
وقساوته يتأثر من خطايا بني آدم فكيف بمضغة