الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٥
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا
هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن
محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإنَّ الاستغفار هو بداية العبد وﻧﻬايته، وأول منازل العبودية،
وأوسطها، وآخرها، ولهذا كان قوام الدين بالتوحيد والاستغفار،
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ُثمَّ ُفصَِّلتْ مِنْ َلدُ ْ ن : كما قال الله تعالى
حَكِي ٍ م خَِب ٍ ير * َألَّا تَعْبُدُوا ِإلَّا اللَّهَ ِإنَِّني َلكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وََأنِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّ ُ كمْ ُثمَّ تُوبُوا ِإَليْهِ يُمَتِّعْ ُ كمْ مَتَاعًا حَسَنًا ِإَلى َأجَ ٍ ل
مُسَمى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي َفضْ ٍ ل َفضَْلهُ وَِإنْ تَوَلَّوْا َفِإنِّي َأخَافُ عََليْ ُ كمْ
.[٣- هود: ١ ] عَذَابَ يَوٍْم َ كِب ٍ ير
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ َأ ْ ن يُؤْمِنُوا ِإ ْ ذ جَاءَهُمُ اْلهُدَى : وقال تعالى
وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ ِإلَّا َأ ْ ن تَأْتِيَهُمْ سُنَُّة الَْأوَّلِينَ َأوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ
.[ الكهف: ٥٥ ] قُبُ ً لا
فانظر كيف قرن الله تعالى بين الإيمان والاستغفار في هذه الآية
التي خاطب ﺑﻬا كفار مكة، والذين ما منعهم من الإيمان ونبذ الشرك
ومن الاستغفار مما سلف من ذنوﺑﻬم، إلا تقدير الله إتياﻧﻬم ما جرت
٦ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
به سُنته في الأمم المكذبة السابقة من الهلاك الدنيوي أو العذاب
الأخروي، أو إرادته سبحانه وتعالى ذلك بناء على علمه السابق من
سوء حالهم وخُبث نفوسهم.
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الرجل
اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، » : مسلمًا علَّمه أن يقول
.(١) « وعافني، وارزقني
والعبد دائمًا بين نعمة من الله يحتاج فيها إلى شكر، وذنب منه
يحتاج فيه إلى استغفار، وكلاهما من الأمور اللازمة للعبد دائمًا، فلو
نظرت في جنس الإنسان لرأيت أنه لا يزال يتقلَّب في ِنعم الله تعالى
التي لا تُحصى، ولا يزال محتاجًا على التوبة والاستغفار لكونه
خطَّاءً، وخير الخطائين التوابون.
فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى
لو لم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبون فيستغفرون » : الله عليه وسلم
٢). وفي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى : )« فيغفر الله لهم
يا عبادي، إنكم تُخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ...»
٣) فهذا دليل على أنَّ الأصل في )«... جميعًا فاستغفروني أغفر لكم
جنس الإنسان الجنوح إلى الخطيئة والذنب، وأنه مأمور بالتوبة
والاستغفار لمحو الذنب والخطيئة.
١) أخرجه مسلم من حديث طارق بن أشيم. )
٢) أخرجه مسلم. )
٣) أخرجه مسلم. )
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٧
قال ابن رجب: "... هذا يقتضي أنَّ جميع الخلق مُفتقِرون إلى
الله تعالى في جلب صالحهم، ودفع مضارهم في أمور دينهم
ودنياهم، وأنَّ العباد لا يملكون لأنفسهم شيًئا من ذلك كلِّه، وأنَّ
من لم يتفضَّل الله عليه بالهدى والرزق فإنه يحرمهما في الدنيا، ومن
.( لم يتفضَّل عليه بمغفرة ذنوبه أوبقتهُ خطاياه في الآخرة " ( ١
ومن فضله سبحانه وعظيم كرمه وكبير منته أن س هل على
عباده الخروج من الذنب، فليس في شريعتنا ذنب على عباده
الخروج من الذنب، فليس في شريعتنا ذنب إذا فعله الإنسان لا
يمكن الخروج منه إلا بمشقة عظيمة أو حرج شديد، بل إنَّ الأمر
يسير لمن يسَّره الله عليه، فالله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب
مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه يفرح
آل عمران : ] وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ ِإلَّا اللَّ هُ بتوبة عبده وأوبته
.[١٣٥
فلله الحمد أو ً لا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
ولقد يسَّر الله تعالى أمر الاستغفار للعباد، فبمقدور كلِّ عبدٍ
الإتيان به في جميع أحواله وأوقاته: في ليله وﻧﻬاره، وفي خلوته
وجلوته، وفي صحته ومرضه، وفي ظعنه وإقامته، وفي قيامه وقعوده،
وهو طاهر ومحدث، لا عذر للمرء في التكاسل عنه بوجهٍ من
الوجوه.
والمتأمِّل في باب الاستغفار يجده مُتشعِّبًا وواسعًا، لا يقتصر
.(٣٨-٣٧/ ١) جامع العلوم والحكم ( ٢ )
٨ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
الإتيان به على التخلُّص من تبعة الذنب فقط، بل إنه يدخل في كث ٍ ير
من العبادات والأعمال والتروك، وله أحكام كثيرة يغفل عنها
الكثير، وهذا ما سأوضح بعضه في هذه الرسالة المختصرة بتوفيق الله
تعالى.
والله أسأل أن ينفع ﺑﻬا، وأن يدَّخرها لي، يوم لا ينفع مال ولا
بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وكتب
عزيز بن فرحان العنزي
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٩
فصل
تعريف الاستغفار
الاستغفار: هو طلب المغفرة من الله تعالى والتجاوز عن الذنب
وعدم المؤاخذة به، إما بترك التوبيخ والعقاب رأسًا، أو بعد
التقرير( ١) به فيما بين العبد وربِّه.
وطلب المغفرة: قد يكون بالقول أو الفعل، فإن المغفرة هي :
وقاية شر الذنب، ومن أهل العلم من يقول: إنَّ الاستغفار من
ويقول: إنما سُمِّي المغفرة والغفار، ،« الستر » والغفر هو ،« الغفر »
وَِإنْ تَعُْفوا وَتَصَْفحُوا : لِما فيه من معنى الستر، يقول تعالى
.[ التغابن: ١٤ ] " وَتَغْفِرُوا َفِإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
أى: تستروا عيوﺑﻬم، وتمهدوا لهم في « وتغفروا » ومعنى
الاعتذار.
ويأتي الاستغفار في القرآن على معانٍ عديدة:
عند فريق من أهل العلم بالتفسير، « الإسلام » فيأتي بمعنى
وَمَا كمجاهد وعكرمة، واستدلُّوا لذلك بقول الله سبحانه وتعالى
كَا َ ن اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وََأنْتَ فِي ِ همْ وَمَا كَا َ ن اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
الأنفال: ٣٣ ]. أي: يسلمون. ] يَسْتَغْفِرُو َ ن
عند فريق آخر، فكلُّ دعاء فيه « الدعاء » ويأتي الاستغفار بمعنى
١) التقرير: أن يوقف الله تعالى عبده على الذنب فيقرُّ العبد به أو جوارحه. )
١٠ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
سؤال الغفران فهو استغفار، إلا أن بين الاستغفار والدعاء عمومًا
وخصوصًا من وجه، فيجتمعان في طلب المغفرة، وينفرد الاستغفار
إن كان بالفعل لا بالقول، كما ينفرد الدعاء إن كان بطلب غير
المغفرة.
وهنا قد يلتبس الأمر على كث ٍ ير ،« التوبة » ويأتي الاستغفار بمعنى
من الناس فيظنون أنَّ الاستغفار هو التوبة، والتوبة هي الاستغفار،
وبتتبُّع النصوص يظهر أنَّ بين التوبة والاستغفار عمومًا وخصوصًا
من وجه، فإذا تفرَّقا اجتمعا، وإذا اجتمعا تفرَّقا، فعند الإطلاق
يدخل كلٌّ منهما في مسمَّى الآخر، وعند اقتراﻧﻬما يكون الاستغفار
طلب وقاية شرِّ ما مضى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شرِّ
ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله.
قال ابن القيم: "وأما الاستغفار فهو نوعان: مفرد، ومقرون
اسْتَغْفِرُوا رَبَّ ُ كمْ : بالتوبة، فالمفرد: كقول نوح عليه السلام، لقومه
، نوح : ١٠ ] ِإنَّهُ كَا َ ن َ غفَّارًا * يُرْسِ ِ ل السَّمَاءَ عََليْ ُ كمْ مِدْرَارً ا
.[١١
َلوَْلا تَسْتَغْفِرُو َ ن اللَّهَ َلعَلَّكُمْ : وقول صالح لقومه
.[ النمل: ٤٦ ] تُرْحَمُو َ ن
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ِإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ : وكقوله تعالى
.[ [البقرة: ١٩٩
وَمَا كَا َ ن اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وََأنْتَ فِي ِ همْ وَمَا كَا َ ن اللَّهُ : وقوله
.[ الأنفال: ٣٣ ] مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُو َ ن
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ١١
اسْتَغْفِرُوا رَبَّ ُ كمْ ُثمَّ تُوبُوا ِإَليْهِ يُمَتِّعْ ُ كمْ : والمقرون كقوله تعالى
هود: ] مَتَاعًا حَسَنًا ِإَلى َأجَ ٍ ل مُسَمى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي َفضْ ٍ ل َفضَْلهُ
.[٣
اسْتَغْفِرُوا رَبَّ ُ كمْ ُثمَّ تُوبُوا ِإَليْهِ يُرْسِ ِ ل : وقول هود لقومه
.[ هود: ٥٢ ] السَّمَاءَ عََليْ ُ كمْ مِدْرَارًا
هُوَ َأنْشََأكُمْ مِنَ الَْأرْ ِ ض وَاسْتَعْمَرَ ُ كمْ فِيهَا : وقول صالح لقومه
.[ هود: ٦١ ] َفاسْتَغْفِرُوهُ ُثمَّ تُوبُوا ِإَليْهِ ِإنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُ ِ جيبٌ
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّ ُ كمْ ُثمَّ تُوبُوا ِإَليْهِ ِإنَّ : وقول شعيب
.[ هود: ٩٠ ] رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ
فالاستغفار المفرد كالتوبة، بل هو التوبة بعينها مع تضمُّنه
طلب المغفرة من الله، وهو محو الذنب وإزالة أثره ووقاية شرّه، لا
كما ظنَّه بعض الناس أﻧﻬا الستر، فإنَّ الله يستر على من يغفر له
ومن لا يغفر له، ولكن الستر لازم مسمَّاها أو جزؤه، فدلالتها عليه
إما بالتضمُّن وإما باللزوم، وحقيقتها وقاية شرِّ الذنب، ومنه المغفرة
لما يقي الرأس من الأذى، والستر لازم لهذا المعنى، وإلا فالعمامة لا
تسمى مغفرًا ولا القبعة ونحوه مع ستره، فلا بد في لفظ المغفرة من
وَمَا : الوقاية، وهذا الاستغفار هو الذي يمنع العذاب في قوله
.[ الأنفال: ٣٣ ] كَا َ ن اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُو َ ن
فإنَّ الله لا يعذِّب مستغفِرًا، وأمَّا من أصرَّ على الذنب، وطلب
من الله مغفرته، فهذا ليس باستغفا ٍ ر مطلق، ولهذا لا يمنع العذاب،
فالاستغفار يتضمَّن التوبة، والتوبة تتضمَّن الاستغفار، وكلٌّ منهما
١٢ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق.
وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى، فالاستغفار: طلب
وقاية شر ما مضى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شر ما
يخافه في المستقبل من سيئات أعماله، فها هنا ذنبان: ذنب قد مضى
فالاستغفار منه: طلب وقاية شره، وذنب يخاف وقوعه، فالتوبة :
العزم على ألاَّ يفعله.
والرجوع إلى الله يتناول النوعين: رجوع إليه ليقيه شرَّ ما
مضى، ورجوع إليه ليقيه شرَّ ما يستقبل من شر نفسه وسيئات
أعماله.
وأيضًا فإنَّ الذنب بمنزلة من ركب طريًقا تؤدِّيه إلى هلاكه، ولا
توصله إلى المقصود، فهو مأمورٌ أن يولِّيها ظهره، ويرجع إلى السلام
التي فيها نجاته، والتي توصله إلى مقصوده وفيها فلاحه، فهنا أمران
لا بدَّ منهما: مفارقة شيء والرجوع إلى غيره، فخُصَّت التوبة
بالرجوع، والاستغفار بالمفارقة، عند إفراد أحدهما بتناول الأمرين،
اسْتَغْفِرُوا : ولهذا جاء - والله أعلم - الأمر يهما مرتبًا بقوله
هود: ٣]. فإنه الرجوع إلى طريق الحقِّ بعد ] رَبَّ ُ كمْ ُثمَّ تُوبُوا ِإَليْهِ
مفارقة الباطل.
وأيضًا: فالاستغفار من باب إزالة الضرر، والتوبة: طلب جلب
المنفعة، فالمغفرة، أن يقيه شر الذنب، والتوبة: أن يحصل له بعد هذه
.( الوقاية ما يحبه، وكلٌّ منهما يستلزم الآخر عند إفراده، والله أعلم( ١
.(٣٠٨-٣٠٧/ ١) مدارج السالكين ( ١ )
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ١٣
فصل
حكم الاستغفار
الاستغفار: عبادة من العبادات الجليلة والُقرَب العظيمة، سواء
استغفر المرء لنفسه أو استغفر لغيره.
والأصل: أنه مندوب إليه، لقول الله سبحانه وتعالى :
.[ المزمل: ٢٠ ] وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ِإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
والأمر هنا يُحمل على الندب، لأنه قد يكون من غير معصية،
فيستغفر المرء لنفسه ولوالديه ولذريته ولإخوانه الذين سبقوه
بالإيمان، وللمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
لكنَّ الاستغفار قد يخرج عند الندب إلى الوجوب، كالاستغفار
من المعصية بعد الوقوع فيها، وكالاستغفار لمن اغتابه على
.( الصحيح( ١
وقد يخرج إلى الكراهة، وذكر بعض أهل العلم لذلك مثا ً لا،
كالاستغفار للميت خلف الجنازة، لأنه توظيف لهذه العبادة في غير
مكاﻧﻬا المشروع، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان
يستغفر خلف الجنازة، ولا عن أحدٍ من أصحابه رضوان الله عليهم
أجمعين، وإنما الاستغفار للميت يكون أثناء الصلاة وبعد الدفن كما
سيمرُّ معنا.
.(٢٩١/ ١) انظر مدارج السالكين ( ١ )
١٤ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
وقد يخرج إلى الحرمة، كالاستغفار للكفار، ولو كانوا أولي
قربى، للنهي الصريح الوارد في كتاب الله جلَّ وعلا، قال تعالى :
مَا كَا َ ن لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا َأ ْ ن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْ ِ ركِينَ وََلوْ َ كانُوا
ُأولِي ُقرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ َلهُمْ َأنَّهُمْ َأصْحَابُ اْلجَحِي ِ م * وَمَا كَا َ ن
اسْتِغَْفارُ ِإبْرَاهِيمَ لَِأِبيهِ ِإلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا ِإيَّاهُ َفَلمَّا تَبَيَّنَ َلهُ َأنَّهُ
.[١١٤ ، التوبة: ١١٣ ] عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرََّأ مِنْهُ
سَوَاءٌ عََليْ ِ همْ اسْتَغَْفرْتَ َلهُمْ َأمْ َلمْ : وقال في حقِّ المنافقين
.[ المنافقون: ٦ ] تَسْتَغْفِرْ َلهُمْ َلنْ يَغْفِرَ اللَّهُ َلهُمْ
فالاستغفار لا ينفعهم شيًئا، وذلك لفداحة ما هم عليه من
الاعتقاد الفاسد المبطن، ولإيغالهم في الكفر واﻧﻬماكهم في الفسق
ِإنَّ : والقبائح، فاستحقوا هذا الجزاء الخطير، قال تعالى
الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الَْأسَْف ِ ل مِنَ النَّا ِ ر وََلنْ تَ ِ جدَ َلهُمْ نَصِيرً ا
.[ [النساء: ١٤٥
* * *
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ١٥
فصل
حاجة العبد إلى الاستغفار
للاستغفار شأن عظيم ومنزلة كبيرة ومكانة سامية، ويكفي
لبيان عظمة الاستغفار مواظبة الأنبياء عليه ودعوة أقوامهم إليه وثناء
الله تعالى على المتلبسين به واللاهجين به في الأسحار، والعبد
بالنسبة إلى ربه عز وجل فقير إليه فقر ذات وفقر صفات، واحتياجه
إلى ربه عز وجل أمر ذاتي لا ينفكُّ عن العبد في كلِّ لحظةٍ وفي كلِّ
حركة وسكنة، ولذلك يتفاوت الناس في إدراك هذا الأمر، وَلمَّا
كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعرف الناس بالله كانوا أكثرهم
خشيًة وإنابة له، وأشدُّهم تمسُّ ً كا ﺑﻬذا الاستغفار، وهكذا العلماء
يأتون في المرتبة الثانية بعد الأنبياء في حيازة الخشية والإنابة، لأنَّ من
ِإنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ : كان بالله أعرف كان له أخوف، قال تعالى
فاطر: ٢٨ ]، ولذلك نجد أهل ] عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ِإنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ
العلم في غالب أحوالهم على هذا المسلك من الاستمساك
بالاستغفار، وكذلك وصاياهم به لا تكاد تغيب عن منهجهم في
التعليم والتوجيه، فهم يُرغِّبون الناس في المحافظة على الاستغفار، لِما
يعلمون ما فيه من السلامة والعصمة ومحق الذنوب وتيسير الأمور
للعبد.
قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى مبينًا حاجة
العبد إلى الاستغفار: "الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه إلى
الفعل المحبوب، ومن العمل الناقص إلى العمل التام، ويرفع العبد من
١٦ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل، فإنَّ العابد لله والعارف بالله
في كلِّ يوم، بل في كل ساعة، بل في كل لحظة، يزداد علمًا بالله
وبصيرة في دينه وعبوديته، بحيث يجد ذلك في طعامه وشرابه ونومه
ويقظته وقوله وفعله، ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات
العالية، وإعطائها حقها، فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل
وأطراف النهار، بل هو مضطرٌّ إليه دائمًا في الأقوال والأحوال، في
الغوائب والمشاهد، لِما فيه من المصالح وجلب الخيرات ودفع
المضرَّات، وطلب الزيادة في القوة في الأعمال القلبية والبدنية اليقينية
الإيمانية.
وقد ثبتت دائرة الاستغفار بين أهل التوحيد، واقتراﻧﻬا بشهادة
ألاَّ إله إلا الله من أولهم إلى آخرهم، ومن آخرهم إلى أولهم، ومن
الأعلى إلى الأدنى، وشمول دائرة التوحيد والاستغفار للخلق كلِّهم،
وهم فيها درجات عند الله، ولكلِّ عام ٍ ل مقاٍم معلوم، فشهادة ألاَّ
إله إلا الله بصد ٍ ق ويق ٍ ين تُذهب الشرك كله، دقَّه وجلَّه، خطأه
وعمده، أوله وآخره، سرَّه وعلانيته، وتأتي على جميع صفاته
وخفاياه ودقائقه.
والاستغفار يمحو ما بقي من عثراته ويمحو الذنب الذي هو من
شُعَب الشرك، فإنَّ الذنوب كلها من شعب الشرك، فالتوحيد
» : يذهب أصل الشرك، والاستغفار يمحو فروعه، فأبلغ الثناء قول
فأمره بالتوحيد ،« أستغفر الله » : وأبلغ الدعاء قول ،« لا إله إلا الله
والاستغفار لنفسه ولإخوانه من المؤمنين".
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ١٧
وقال: ".... التوبة من أعظم الحسنات، والحسنات كلها
مشروط فيها الإخلاص لله، وموافقة أمره باتباع رسوله، والاستغفار
من أكبر الحسنات، وبابه واسع، فمن أحسَّ بتقصير في قوله أو
عمله أو حاله أو رزقه، أو تقلب قلب؛ فعليه بالتوحيد والاستغفار؛
ففيهما الشفاء إذا كانا بصد ٍ ق وإخلاص، وكذلك إذا وجد العبد
تقصيرًا في حقوق القرابة والأهل والأولاد والجيران والإخوان؛ فعليه
بالدعاء لهم والاستغفار، قال حذيفة بن اليمان للنبي صلى الله عليه
أين أنت من » : وسلم: إنَّ لي لسانًا ذربًا على أهلي. فقال له
.(١) "« الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة
* * *
١) مجموع الفتاوى قلت: والحديث رواه أحمد والنسائي والدارمي والبيهقي والطبراني )
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه بأسانيد لا يخلو كلُّ واحد منها من مقال، وله
شواهد في الصحيحين.
١٨ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
فصل
فضل الاستغفار
ورد في فضل الاستغفار نصوص في الكتاب والسنة، كلها تشير
إلى أهمية الاستغفار وفضله، وكثرة خيره وبركته، وكبير عوائده
وفوائده، على المستغفِر والمستغَفر له، وقد تنوَّعت دلالات نصوص
القرآن والسنة في ذلك ما بين أمرٌ به وإرشادٌ إليه، وحكاية ما عليه
حال الأنبياء - عليهم السلام - من التمسُّك به، كلُّ ذلك لبيان
فضله، ولكونه عبادة محبَّبة إلى الله تعالى.
فممَّا يدلُّ على فضل الاستغفار :
أو ً لا- ثناء الله تعالى على المستغفرين:
.[ الذاريات: ١٨ ] وَاْلمُسْتَغْفِ ِ رينَ ِباْلَأسْحَا ِ ر : يقول تعالى
وهو من ُثلث الليل الأخير، ،« سَحَر » والأسحار: جمع
وتخصيص السحر بالاستغفار لأنَّ الدعاء فيه أقرب إلى الإجابة، إذ
العبادة حينئذ أشقُّ والنفس أصفى، والربُّ تعالى ينزل نزو ً لا يليق
هل من مستغفر فاغفر » : بجلاله وعظمته إلى سماء الدنيا، ويقول
.(١) «؟ له
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والناس في آخر الليل يكون في
قلوﺑﻬم من التوجه والتقرُّب والرقَّة ما لا يوجد في غير ذلك الوقت،
١) حديث قدسي أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة. )
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ١٩
هل من داع؟ هل من » : وهذا مناسب لنزوله إلى سماء الدنيا وقوله
.(١) "« سائل؟ هل من تائب
ولذلك َلمَّا طلب أبناء يعقوب عليه السلام من أبيهم أن
« سَوْفَ َأسْتَغْفِرُ َل ُ كمْ رَبِّي » : يستغفر لهم، أجَّلهم إلى السَّحر، وقال
[يوسف: ٩٨ ]. قاله ابن مسعود والنخعي وعمر بن قيس وابن
.( جريج وغيرهم ( ٢
سَلَامٌ عََليْكَ سََأسْتَغْفِرُ َلكَ رَبِّي ِإنَّهُ : وهكذا قال إبراهيم لأبيه
مريم: ٤٧ ]. قيل: إنه أخَّر الاستغفار له إلى ] كَا َ ن ِبي حَفِيا
السحر.
ثانيًا- ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم للاستغفار..
ومما يدلُّ على فضله وكثرة خيره وبركته ملازمة النبي صلى الله
عليه وسلم له، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلاَّ الأفضل
من العمل، فض ً لا عن الملازمة التامة له، فقد ثبت أنَّ النبي صلى الله
عليه وسلم واظب على الاستغفار، حتى كان شعارًا ظاهرًا له، وقد
جاءت نصوص كثيرة ﺑﻬذا، فمن ذلك:
• عن الأغر المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
إنه ليُغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في كل » : الله عليه وسلم
.(٣) « يوم مائة مرَّة
.(١٣١-١٣٠/ ١) مجموع الفتاوى ( ٥ )
.(٥١٥/ ٢) تفسير ابن كثير ( ٤ )
٣) أخرجه أحمد ومسلم. )
٢٠ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
• وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من » : عليه وسلم
.(١) « مائة مرة
• وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " كنا نعدُّ لرسول الله
ربِّ اغفر » : صلى الله عليه وسلم في اﻟﻤﺠلس الواحد مائة مرة قول
.(٢) "« لي وتبْ عليَّ إنك أنت التواب الرحيم
ثالًثا: أن الاستغفار هو شعار الأنبياء جميعًا. عليهم الصلاة
والسلام:
فما من نبيٍّ إلا استغفر ودعا أمته إلى الاستغفار، قال تعالى على
لسان آدم وحواء عليهما السلام وهما يستغفران الله من الخطيئة :
رَبَّنَا َ ظَلمْنَا َأنُْفسَنَا وَِإنْ َلمْ تَغْفِرْ َلنَا وَتَرْحَمْنَا َلنَكُونَنَّ مِنَ
.[ الأعراف: ٢٣ ] " الْخَاسِرِينَ
َقا َ ل رَبِّ ِإنِّي : وقال تعالى على لسان موسى عليه السلام
َ ظَلمْتُ نَ ْ فسِي َفا ْ غفِرْ لِي َفغََفرَ َلهُ ِإنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
وَ َ ظ نَّ : [القصص: ١٦ ]، وقال تعالى عن داود عليه السلام
.[ ص: ٢٤ ] دَاوُودُ َأنَّمَا َفتَنَّاهُ فَاسْتَغَْفرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وََأنَا بَ
وقال تعالى على لسان نوح عليه السلام وهو يعظ قومه :
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ِإنَّهُ كَا َ ن َ غفَّارًا * يُرْسِ ِ ل السَّمَاءَ عََليْ ُ كمْ مِدْرَارًا
١١ ]، وقال تعالى على لسان صالح عليه السلام وهو ، [نوح: ١٠
١) أخرجه البخاري. )
٢) أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح. )
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٢١
النمل : ] " َلوَْلا تَسْتَغْفِرُو َ ن اللَّهَ َلعَلَّكُمْ تُرْحَمُو َ ن : يعظ ثمودًا
هُوَ َأنْشََأكُمْ مِنَ الَْأرْ ِ ض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا : ٤٦ ]. وفي آية أخرى
[ هود: ٦١ ] َفاسْتَغْفِرُوهُ ُثمَّ تُوبُوا ِإَليْهِ ِإنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُ ِ جيبٌ
وقال تعالى على لسان هود عليه السلام وهو يعظ قومه :
، اسْتَغْفِرُوا رَبَّ ُ كمْ ُثمَّ تُوبُوا ِإَليْهِ يُرْسِ ِ ل السَّمَاءَ عََليْ ُ كمْ مِدْرَارً ا
[هود: ٥٢ ]، وقال تعالى على لسان شعيب عليه السلام :
هود : ] وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّ ُ كمْ ُثمَّ تُوبُوا ِإَليْهِ ِإنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ
.[٩٠
والنصوص في هذا الأمر كثيرة جدًا مما يدل على عظيم مقام
الاستغفار.
رابعًا- أنَّ الاستغفار أساس العبودية ورُوحها؛ لأنَّ المستغفِر إنما
يُظهر كمال ُذلِّه وافتقاره وخضوعه بين يدي مولاه، لعلمه أنه
وحده الخالق المتفرد والمستحق للعبادة، وأنه بيده الأمر كله، وإليه
يرجع الأمر كله، وأنه لا يغفر الذنوب إلا هو، ولا يقبل العثرات،
ويغفر الزلات ويتجاوز عن الخطيئات إلا هو، فهنا لا يتوكل العبد
إلا عليه، ولا يرجو أحدًا سواه، ولا يسأل غيره ولا يستعين إلا به،
فهاجسه الذي يُقلقه على الدوام: طلب رضا الله وعفوه، فهو في
كلِّ لحظة يستشعر افتقاره إلى ربه وحاجته إليه، ومن يحمل مثل هذا
الأمر يكون قد نجا بإذن الله تعالى من الأمن من مكر الله، ومن
القنوط من رحمته، لأنَّ غير المستغفر أحد رجلين: إما أنه آمن من
الأعراف : ] َفَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ ِإلَّا اْلَقوْمُ الْخَاسِرُو َ ن ، مكر الله
٢٢ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ ِإلَّا ٩٩ ]. وإما أنه قانط من رحمة الله
.[ الحجر: ٥٦ ] الضَّالُّو َ ن
قال ابن القيم: "أساس كلِّ خير أن تعلم أنَّ ما شاء الله كان
وما لم يشأ لم يكن؛ فتيقن حينئذ أنَّ الحسنات من نعمه فتشكره
عليها وتتضرع إليه ألاَّ يقطعها عنك، وأنَّ السيئات من خذلانه
وعقوبته فتبتهل إليه أن يحول بينك وبينها، ولا يكلك في فعل
الحسنات وترك السيئات إلى نفسك، وقد أجمع العارفون على أنَّ
كلِّ خير فأصله بتوفيق الله للعبد، وكل شرٍّ فأصله خذلانه لعبده،
وأجمعوا أنَّ التوفيق: ألاَّ يكلك الله إلى نفسك، وأنَّ الخذلان هو
أن يُخلي بينك وبين نفسك، فإذا كان كل خير، فأصله التوفيق،
وهو بيد الله لا بيد العبد، فمفتاحه الدعاء، والافتقار وصدق
اللجوء والرغبة والرهبة إليه، فمتى َأعطى العبد هذا المفتاح فقد أراد
أن يُفتح له، ومتى أضله عن المفتاح بقي باب الخير مرتجًّا دونه".
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: "إني لا أحمل همَّ الإجابة
ولكن همَّ الدعاء، فإذا ُألهمت الدعاء فإنَّ الإجابة معه".
وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده، ورغبته في ذلك يكون
توفيقه سبحانه وإعانته، فالمعونة من الله على قدر هممهم وثباﺗﻬم
ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك، فالله
سبحانه أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، يضع التوفيق في مواضعه
اللائقة به والخذلان في مواضعه اللائقة به، هو العليم الحكيم، وما
ُأتي من ُأتي إلاَّ من قِبل إضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدعاء، ولا
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٢٣
ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه إلاَّ بقيامه بالشكر، وصدق الافتقار
.( والدعاء... " ( ١
خامسًا- أن في الاستغفار مصالح لا يدركها العبد.
قال ابن القيم وهو يتحدَّث عن فوائد التضرُّع إلى الله
تعالى، ومشاهدة الذنب: "ومنها أنَّ الله سبحانه إذا أراد بعبده خيرًا
أنساه رؤية طاعاته، ورفعها من قلبه ولسانه، فإذا ابتُلِي بالذنب
جعله نصب عينيه، ونسي طاعاته، وجعل همَّه كلَّه بذنبه، فلا يزال
ذنبه أمامه، إن قام أو قعد أو غدا أو راح، فيكون هذا عين
إنَّ العبد ليعمل الذنب » : الرحمة في حقِّه، كما قال بعض السلف
قالوا: وكيف ،« فيدخل به الجنة، ويعمل الحسنة فيدخل ﺑﻬا النار
يعمل الخطيئة فلا تزال نصب عينيه كلما ذكرها بكى » : ذلك؟ قال
وندم وتاب واستغفر وتضرَّع وأناب إلى الله وذلَّ له وانكسر
وعمل لها أعما ً لا، فتكون سبب الرحمة في حقِّه، ويعمل الحسنة فلا
تزال نصب عينيه يمنُّ ﺑﻬا ويراها ويعتدُّ ﺑﻬا على ربه وعلى الخلق
ويتكبر ﺑﻬا ويتعجب من الناس كيف لا يعظمونه ويكرمونه، ويجلونه
عليها، فلا تزال هذه الأمور به حتى تقوى عليه آثارها ف تدخله
.« النار
فعلامة السعادة: أن تكون حسنات العبد خلف ظهره،
وسيئاته نصب عينيه، وعلامة الشقاوة: أن يجعل حسناته نصب
عينيه، وسيئاته خلف ظهره، والله المستعان.
.(١٢٨- ١) الفوائد ( ١٢٧ )
٢٤ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
ومنها: أن شهود العبد ذنوبه وخطاياه موجب له ألا يرى
لنفسه على أحد فض ً لا، ولا له على أحد حقَّا، فإنه يشهد عيوب
نفسه وذنوبه، فلا يظنُّ أنه خيرٌ من مسلم يؤمن بالله ورسوله،
ويُحرِّم ما حرم الله ورسوله، وإذا شهد ذلك من نفسه، لم يرَ لها
على الناس حقوًقا من الإكرام يتقاضاهم إيَّاها، ويذمُّهم على ترك
القيام ﺑﻬا، فإﻧﻬا عنده أخسُّ قدرًا وأقلُّ قيمًة من أن يكون له ﺑﻬا على
عباد الله حقوق، يجب عليهم مراعاﺗﻬا، أو له عليهم فضل يستحق
أن يكرم ويعظم ويقدَّم لأجلها، فيرى أن من سلَّم عليه أو
لقيه بوجه منبسط فقد أحسن إليه، وبذل له ما لا يستحقه،
فاستراح هذا في نفسه، وأراح الناس من شكايته وغضبه على
الوجود وأهله، فما طاب عيشه وما أنعم باله وما أقرَّ عينه، وأين
هذا ممن لا يزال عاتبًا على الخلق شاكيًا ترك قيامهم بحقه، ساخ ً طا
عليهم وهم عليه أسخط؟!
ومنها: أنه يوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكر فيها،
فإنه في شغل بعيب نفسه، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس،
وويل لمن نسي عيبه وتفرغ لعيوب الناس، هذا من علامة الشقاوة،
كما الأول من أمارات السعادة.
ومنها: أنه إذا وقع في الذنب شهد نفسه مثل إخوانه الخطائين،
وشهد أنَّ المصيبة واحدة، والجميع مشتركون في الحاجة، بل في
الضرورة إلى مغفرة الله وعفوه ورحمته، فكما يحب أن يستغفر
لأخيه المسلم، فيصبر هجيراه: ربِّ اغفر لي ولوالدي وللمسلمين
والمسلمات، وللمؤمنين والمؤمنات.
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٢٥
فإذا شهد العبد أنَّ إخوانه مصابون بمثل ما أصيب به، محتاجون
إلى ما هو محتاج إليه، لم يمتنع من مساعدﺗﻬم، إلا لفرط جه ٍ ل بمغفرة
الله وفضله، وحقيقٌ ﺑﻬذا ألاَّ يساعد؛ فإنَّ الجزاء من جنس العمل،
وقد قال بعض السلف: إنَّ الله َلما عتب على الملائكة بسبب قولهم
[ البقرة: ٣٠ ] َأتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
وامتحن هاروت وماروت بما امتحنهما به، جعلت الملائكة بعد
( ذلك تستغفر لبني آدم، وتدعو الله لهم " ( ١
* * *
.(٢٩٩ -٢٩٧/ ١) مفتاح دار السعادة ( ١ )
٢٦ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
فصل
ما هو الاستغفار المطلوب؟
مرَّ معنا أنَّ الاستغفار عبادة من أجلِّ العبادات، وأنَّ فضله
عظيم وعوائده أثيرة وخيره عميم، وخيراته على العبد متوالية في
الدنيا والآخرة، وقد ذكرنا ما عليه حال الأنبياء مع الاستغفار،
وسيمرُّ معنا بيان آثاره في فص ٍ ل مستقل، لكنَّ السؤال الذي نطرحه
في هذا الفصل: ما هو الاستغفار المطلوب من العبد الإتيان به؟
والذي به يستنزل المستغفر عطف الله ورحمته ويكون مقبو ً لا بإذن
الله رب العالمين؟
ها هنا قاعدة عند أهل السنة والجماعة يذكروﻧﻬا دائمًا في
شروط قبول العمل، أذكرها قبل الحديث عن الاستغفار المطلوب،
وهي أنَّ العبادة لا تُقبل إلاَّ بشرطين أساسيين:
الأول- أن يكون العمل خالصًا لله تعالى.
والثاني- أن يكون صوابًا على سُنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ويُطرِّدون هذين الشرطين في جميع العبادات، وقد يضيفون
لبعض العبادات شرو ً طا أخرى لافتقارها إليها، والبعض يسميها
وهذه في الحقيقة راجعة إلي ،« شرو ً طا » والبعض يسميها ،« أركانًا »
جنس العبادة المأمور ﺑﻬا، وما ورد بخصوصها من نصوص تضاف
إلى شرطي قبول العمل، فالاستغفار مث ً لا الذي نحن بصدده: عبادة
من العبادات اشترط فيه حتى يكون مقبو ً لا: أن يكون خالصًا لله
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٢٧
تعالى لا يبتغي به صاحبه أحدًا سوى الله تعالى، وأن يكون مشروعًا
ليس فيه ألفا ً ظا شركية: كطلب المغفرة من المقبورين، أو بدعية :
كتوظيفه في وقت محدد غير مشروع في أصل السنة، أو محرمة :
.« اللهم اغفر لي إن شئت » كقول
وأيضًا يذكر كثير من أهل العلم أن من شروطه : أن يكون
التلفُّظ باللسان لهذا الاستغفار مصحوبًا معناه في القلب، وأن يتذكر
الذنب المستغَفر منه في الحال إن كان ثمَّة ذنب، وذلك لتتحقق له
آل ] فَاسْتَغَْفرُوا لِ ُ ذنُوِب ِ ه مْ : نتائج الاستغفار وثمراته، لقوله تعالى
[ عمران: ١٣٥
أما إن كان الاستغفار باللسان فقط دون تذكر معن اه في
الجنان، أو يستغفر وهو مصرٌّ على المعصية، فقد ذكر كثير من أهل
العلم أنه استغفار غير مقبول، لعدم توفر شرط صحته، بل ذكروا
التائب من الذنب كمن » : أنه ذنب يحتاج إلى استغفار، كما روي
لا ذنب له، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ
.( بربِّه!( ١
والتحقيق أن هذا الأمر من شروط قبول الاستغفار، هذا إذا
كان الاستغفار بسبب تقصير في واجب، أو وقوع في محرم،
فيشترط لصحة الاستغفار عن الذنب: أن يصطحبه المستغفر بقلبه،
فيجمع بين الاستغفار باللسان، وتذكر الذنب بالقلب، ليتخلص
منه، وليجتث جذوره العالقة في قلبه.
١) لا يصح مرفوعًا ومعناه صحيح، وصحَّح وَقفه بعض أهل العلم. )
٢٨ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
وقد ذكر بعض أهل العلم من ذوي التحقيق أنَّ من لم يتيسَّر له
استجماع القلب مع اللسان، ولكنه يجاهد نفسه، إلاَّ أن لسانه
يغلب على قلبه، فهذا إن انتفى الإصرار فهو حَسن، بل لا يُنهى
عنه، بل مطالب من العبد أن يرطِّب لسانه بالاستغفار على الدوام،
لأنَّ الاستغفار عن غفلة خيرٌ من الصمت، وهو طريق ووسيلة إلى
انتباه القلب، فاللسان إذا ألف ذكرًا، يوشك القلب أن يألفه،
فيوافقه عليه، ولذلك من مكائد الشيطان على بني الإنسان: منعهم
من الاستغفار بسبب غفلة القلب، فلينتبه!
فالاستغفار على الدوام أمر محمود وخلَّة حميدة، لأنه عباد ة
مستقلة بذاﺗﻬا، يستغفر على ما علمه من ذنوبه رجاء غفراﻧﻬا وما لم
يعلمه مما يصدر منه، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلِّم
اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك » : أصحابه أن يقولوا على الدوام
.(١) « وأنا أعلم، وأستغفرك مما لا أعلم
١) أخرجه أحمد والبخاري في الأدب وغيرهما من حديث أبي هريرة بسند صحيح. )
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٢٩
فصل
من أي شيء يكون الاستغفار؟
إن الاستغفار يكون من ترك الواجبات، ومن الوقوع في
المحرمات، لا كما يظن البعض أن الاستغفار يكون من فعل الذنب
فقط.
وأنقل هنا كلامًا ماتعًا لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يُقرِّر
فيه أنَّ الاستغفار كما أنه واجب على من وقع في المحرمات، كذلك
هو واجب على من ترك الواجبات فيقول: " التوبة والاستغفار
يكون من ترك الواجبات وفعل المحرمات، والأول يخفى على كثير
َفاصِْبرْ ِإنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِ َ ذنِْبكَ : من الناس. قال تعالى
غافر: ٥٥ ]، وقال تعالى: ] وَسَبِّحْ ِبحَمْدِ رَبِّكَ ِبالْعَشِيِّ وَاْلِإبْ َ كا ِ ر
َفاعَْلمْ َأنَّهُ َلا ِإَلهَ ِإلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِ َ ذنِْبكَ وَلِلْمُؤْمِِنينَ وَاْلمُؤْمِنَاتِ
لِيَغْفِرَ َلكَ اللَّهُ مَا تََقدَّمَ مِنْ َ ذنِْبكَ : [محمد: ١٩ ] وقال تعالى
َألَّا تَعْبُدُوا ِإلَّا اللَّهَ ِإنَِّني َل ُ كمْ مِنْهُ : الفتح: ٢]، قال ] وَمَا تََأخَّرَ
نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وََأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّ ُ كمْ ُثمَّ تُوبُوا ِإَليْهِ يُمَتِّعْ ُ كمْ مَتَاعًا
٣]. ومثل هذا في القرآن ، هود: ٢ ] حَسَنًا ِإَلى َأجَ ٍ ل مُسَمى
كثير.
فنقول: التوبة والاستغفار يكون من ترك مأمور ومن فعل
محظور، فإنَّ كلاهما من السيئات والخطايا والذنوب، وترك الإيمان
والتوحيد والفرائض التي فرضها الله تعالى على القلب والبدن من
الذنوب بلا ريب عند كلِّ أحد، بل هي أعظم الصنفين؛ فإنَّ جنس
٣٠ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
ترك الواجبات أعظم من جنس فعل المحرمات، إذ قد يدخل في ذلك
ترك الإيمان والتوحيد، ومن أتى بالإيمان والتوحيد لم يخلد في النار
ولو فعل ما فعل، ومن لم يأت بالإيمان والتوحيد كان مخلدًا، ولو
كانت ذنوبه من جهة الأفعال قليلة: كالزهَّاد والعُبَّاد من المشركين
وأهل الكتاب، كعباد مشركي الهند وعُباد النصارى وغيرهم، فإﻧﻬم
لا يقتلون ولا يزنون ولا يظلمون الناس، لكنَّ نفس الإيمان
والتوحيد الواجب تركوه.
ولكن يقال: ترك الإيمان والتوحيد الواجب إنما يكون مع
الاشتغال بضدِّه، وضده إذا كان كفرًا فهم يُعاقبون على الكفر،
وهو من باب المنهيِّ عنه، وإن كان ضده من جنس المباحات
كالاشتغال بأهواء النفس ولذاﺗﻬا من الأكل والشرب والرئاسة وغير
ذلك عن الإيمان الواجب، فالعقوبة هنا لأجل ترك الإيمان، لا لأجل
ترك هذا الجنس.
وقد يقال: كلُّ من ترك الإيمان والتوحيد فلا يتركه إلاَّ إلى
كفٍر وشك، فإنَّ النفس لا بدَّ لها من إله تعبده، فمن لم يعبد الرحمن
عبد الشيطان. فيقال: عباد الشيطان جنس عام، وهذا إذا أمره أن
يشتغل بما هو مانع له من الإيمان والتوحيد يقال عَبَدَه، كما أنَّ من
أطاع الشيطان فقد عبدَه ولكن عبادة دون عبادة.
والناس نوعان: طلاب دين، وطلاب دنيا.
فهو يأمر طلاب الدين بالشرك والبدعة، كعباد المشركين وأهل
الكتاب، ويأمر طلاب الدنيا بالشهوات البدنية.
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٣١
إنَّ أخوف ما » : وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
أخاف عليكم شهوات الغيِّ في بطونكم وفروجكم ومضلات
..(١) « الفتن
لكل عامل شرة، » : ولهذا قال الحسن البصري لما ذكر الحديث
ولكل شرة فترة، فإنَّ صاحبها سدَّد وقارب فارجوه، وإن ُأشير
.(٢)« إليه بالأصابع فلا تعدوه
فقالوا: أنت إذا مررت في السوق أشار إليك الناس.
فقال: إنه لم يع ِ ن هذا، وإنما أراد المبتدع في دينه والفاجر في
دنياه؛ فإنَّ ترك الواجب وفعل المحرَّم متلازمان، ولهذا كان من فعل
ما ﻧﻬى عنه يقال: إنه عصى الأمر، ولو قال لها: "إن عصيتِ أمري
فأنت طالق"، فنهاها، فعصته، ففيه وجهان: أص حهما أﻧﻬا تُطلَّق،
وبعض الفقهاء يُعلِّل ذلك بأنَّ هذا يُعدُّ في العرف عاصيًا، ويجعلون
هذا في الأصل نوعين، والتحقيق: أنَّ كلَّ ﻧﻬي ففيه طلب واستدعاء
لِما يقصده الناهي، فهو أمر، فالأمر يتناول هذا وهذا، ومنه: قول
ِإنَّكَ َلنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَ َ كيْفَ تَصِْبرُ عََلى : الخضر لموسى
مَا َلمْ تُحِ ْ ط ِبهِ خُبْرًا * قَا َ ل سَتَ ِ جدُِني ِإ ْ ن شَاءَ اللَّهُ صَاِبرًا وََلا
فَِإنِ : ٦٩ ]. وقال له – الكهف: ٦٧ ] َأعْصِي َلكَ َأمْرًا
اتَّبَعْتَِني َفَلا تَسَْأْلِني عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِ َ ث َلكَ مِنْهُ ذِ ْ كرًا
١) رواه أحمد بسند صحيح. )
٢) رواه الترمذي وابن حبان من حديث أبي هريرة، ورواه أحمد والطحاوي من )
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بسند حسن.
٣٢ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
َفَلا تَسَْأْلِني عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِ َ ث َلكَ : [الكهف: ٧٠ ]، فقوله
ومنه قول ، وََلا َأعْصِي َلكَ َأمْرًا : قد تناوله قوله مِنْهُ ذِ ْ كرًا
مَا مَنَعَكَ ِإ ْ ذ رََأيْتَهُمْ ضَلُّوا * َألَّا تَتَِّبعَ ِ ن َأَفعَصَيْتَ : موسى لأخيه
اخُْل ْ فِني فِي َقوْمِي : ٩٣ ]، وموسى قال له ، طه: ٩٢ ] َأمْ ِ ري
الأعراف: ١٤٢ ]. ﻧﻬي: وهو ] وََأصْلِحْ وََلا تَتَِّبعْ سَِبي َ ل اْلمُ ْ فسِدِينَ
لامه على أنه لم يتبعه، وقال: أفعصيت أمري؟ وعباد العجل كانوا
عََليْهَا مَلَائِ َ كةٌ : مفسدين، وقد جعل هذا كّله أمرًا، وكذلك قوله
غِلَاظٌ شِدَادٌ َلا يَعْصُو َ ن اللَّهَ مَا َأمَرَهُمْ وَيَ ْ فعَُلو َ ن مَا يُؤْمَرُو َ ن
[التحريم: ٦] فهم لا يعصونه إذا ﻧﻬاهم. وقوله عن الرسول صلى
َفلْيَحْ َ ذ ِ ر الَّذِينَ يُخَالُِفو َ ن عَنْ َأمْ ِ رهِ َأ ْ ن تُصِيبَه مْ : الله عليه وسلم
النور: ٦٣ ]، فمن ركب ما ﻧﻬى عنه ] فِتْنَةٌ َأوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ َألِيمٌ
طه : ] وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ َفغَوَى : فقد خالف أمره، وقال تعالى
وَمَا كَا َ ن لِمُؤْمِ ٍ ن وََلا : ١٢١ ] وإنما كان فع ً لا منهيًا عنه، وقوله
مُؤْمِنَةٍ ِإ َ ذا َقضَى اللَّهُ وَرَسُوُلهُ َأمْرًا َأ ْ ن يَ ُ كو َ ن َلهُمُ اْلخِيَرَُة مِنْ
الأحزاب: ٣٦ ]، هو يتناول ما نُهي عنه، أقوى مما يتناول ] َأمْ ِ رهِمْ
إذا ﻧﻬيتكم عن شيء » : ما ُأمر به، فإنه قال في الحديث الصحيح
١)، وقوله : ) « فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ َ كَفرُوا وَعَصَوُا الرَّسُو َ ل َلوْ تُسَوَّى ِبهِمُ
النساء: ٤٢ ] فالمعصية: مخالفة الأمر، ومخالف النهي ] اْلَأرْضُ
عاص، فإنَّ مخالف الأمر وفاعل المحظور، قد يكون أظهر معصية من
تارك المأمور، وبالجملة فهما متلازمان. كل من أمر بشيء فقد ﻧﻬى
١) أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة. )
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٣٣
عن فعل ضده، ومن ﻧﻬى عن فعل أمر بفعل ضده، كما بسط في
موضعه، ولكن لفظ الأمر يعمُّ النوعين، واللفظ العام قد يخصُّ أحد
نوعيه باسم، ويبقى الاسم العام للنوع الآخر، فلفظ الأمر عام، لكن
خصُّوا أحد النوعين بلفظ النهي، فإذا قرن النهي بالأمر كان المراد
به أحد النوعين لا العموم ( ١). ا ه. باختصار.
وأما الاستغفار من المحرَّمات فهو واجب أيضًا، وهو المتبادر
عند إطلاق الاستغفار، أنه يكون مِن فعل المحرم، والنصوص الآمرة
بالاستغفار من فعل المحرمات أكثر من أن تُحصَى في الكتاب
والسنة، من ذلك:
وَمَنْ يَعْمَ ْ ل سُوءًا َأوْ يَ ْ ظلِمْ نَفْسَهُ ُثمَّ يَسْتَغْفِ ِ ر : يقول الله تعالى
.[ النساء: ١١٠ ] اللَّهَ يَ ِ جدِ اللَّهَ َ غُفورًا رَحِيمًا
وَالَّذِينَ ِإ َ ذا َفعَلُوا فَاحِشًَة َأوْ َ ظَلمُوا َأنُْفسَهُمْ : ويقول تعالى
َ ذ َ كرُوا اللَّهَ فَاسْتَغَْفرُوا لِ ُ ذنُوِب ِ همْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ ِإلَّا اللَّهُ وََلمْ
.[ آل عمران: ١٣٥ ] يُصِرُّوا عََلى مَا َفعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُو َ ن
* * *
٦٧٥ )، وقد أوردت غالب النص لما يشتمل عليه من -٦٧٠/ ١) مجموع الفتاوى ( ١١ )
قواعد وفوائد.
٣٤ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
فصل
صيغ الاستغفار
ورد الاستغفار بصيغ متعددة، سبق ذكر بعض منها على سبيل
الإجمال، واستخدام واحد من هذه الصيغ مجزئ في تحقيق الغرض
والمقصود، إلا ما جاء النص بورود بعض الصيغ التي تُقال في بعض
العبادات وفي بعض الأوقات، فهذه ينبغي التقيُّد بألفاظها، ومكان
بياﻧﻬا سأذكره في الحديث عن أنواع الاستغفار المقيد، وهنا أذكر
بعض الصيغ الواردة في السنة من ذلك:
اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، » ( (أ
وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما
صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا
وهذا هو سيد الاستغفار. .« يغفر الذنوب إلا أنت
(ب) أستغفر الله الذي لا إله إلا هو، وأتوب إليه.
(ج) رب اغفر لي وتُب علي، إنك أنت التواب الرحيم.
(د) سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه.
(ه) أستغفر الله أستغفر الله.
(و) اللهم اغفر لي.
(ز) غفرانك، غفرانك.
(ح) أستغفر الله الذي لا إله إلا الله هو الحي القيوم، وأتوب
إليه.
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٣٥
(ط) وإذا كان الاستغفار للغير، كالوالدين والمؤمنين يقول:
رَبَّنَا ا ْ غفِرْ َلنَا : نوح: ١]. ويقول ] رَبِّ ا ْ غفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ
وَلِِإخْوَاِننَا الَّذِينَ سَبَقُونَا ِباْلِإيمَانِ وََلا تَجْعَ ْ ل فِي ُقُلوِبنَا غِ ً لا
الحشر: ١٠ ]. أو ] لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا ِإنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
وهكذا. « اللهم اغفر له وارحمه » أو « اللهم اغفر لأخي »
وهذا على سبيل الذكر لا الحصر.
وهنا فائدة متعلِّقة بلفظٍ ﻧﻬى الشارع عن استخدامه حال
الذكر والدعاء لِما يشتمل عليه من سوء الأدب مع المولى تبارك
وتعالى، سبق وأن أشرت إليها، وهي ما رواه أبو هريرة – رضي
لا يقولن » : الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم
.(١)« المسألة، فإن الله لا مستكره له
وقد بوَّب اﻟﻤﺠدِّد الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله
– على هذا الحديث بابًا في كتاب التوحيد، لينبه على أنَّ قول
الرجل: اللهم اغفر لي إن شئت: دليل على قلة اهتمامه في طلب
المغفرة، وأن قوله هذا متضمن استغناءه عن ربه، وعدم اكتراثه
بذنبه، وهو مما يتنافى مع التوحيد الواجب، وأرشد الرسول صلى الله
.« وليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه » : ١) البخاري ومسلم، ولمسلم )
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا
هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن
محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإنَّ الاستغفار هو بداية العبد وﻧﻬايته، وأول منازل العبودية،
وأوسطها، وآخرها، ولهذا كان قوام الدين بالتوحيد والاستغفار،
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ُثمَّ ُفصَِّلتْ مِنْ َلدُ ْ ن : كما قال الله تعالى
حَكِي ٍ م خَِب ٍ ير * َألَّا تَعْبُدُوا ِإلَّا اللَّهَ ِإنَِّني َلكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وََأنِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّ ُ كمْ ُثمَّ تُوبُوا ِإَليْهِ يُمَتِّعْ ُ كمْ مَتَاعًا حَسَنًا ِإَلى َأجَ ٍ ل
مُسَمى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي َفضْ ٍ ل َفضَْلهُ وَِإنْ تَوَلَّوْا َفِإنِّي َأخَافُ عََليْ ُ كمْ
.[٣- هود: ١ ] عَذَابَ يَوٍْم َ كِب ٍ ير
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ َأ ْ ن يُؤْمِنُوا ِإ ْ ذ جَاءَهُمُ اْلهُدَى : وقال تعالى
وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ ِإلَّا َأ ْ ن تَأْتِيَهُمْ سُنَُّة الَْأوَّلِينَ َأوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ
.[ الكهف: ٥٥ ] قُبُ ً لا
فانظر كيف قرن الله تعالى بين الإيمان والاستغفار في هذه الآية
التي خاطب ﺑﻬا كفار مكة، والذين ما منعهم من الإيمان ونبذ الشرك
ومن الاستغفار مما سلف من ذنوﺑﻬم، إلا تقدير الله إتياﻧﻬم ما جرت
٦ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
به سُنته في الأمم المكذبة السابقة من الهلاك الدنيوي أو العذاب
الأخروي، أو إرادته سبحانه وتعالى ذلك بناء على علمه السابق من
سوء حالهم وخُبث نفوسهم.
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الرجل
اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، » : مسلمًا علَّمه أن يقول
.(١) « وعافني، وارزقني
والعبد دائمًا بين نعمة من الله يحتاج فيها إلى شكر، وذنب منه
يحتاج فيه إلى استغفار، وكلاهما من الأمور اللازمة للعبد دائمًا، فلو
نظرت في جنس الإنسان لرأيت أنه لا يزال يتقلَّب في ِنعم الله تعالى
التي لا تُحصى، ولا يزال محتاجًا على التوبة والاستغفار لكونه
خطَّاءً، وخير الخطائين التوابون.
فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى
لو لم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبون فيستغفرون » : الله عليه وسلم
٢). وفي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى : )« فيغفر الله لهم
يا عبادي، إنكم تُخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ...»
٣) فهذا دليل على أنَّ الأصل في )«... جميعًا فاستغفروني أغفر لكم
جنس الإنسان الجنوح إلى الخطيئة والذنب، وأنه مأمور بالتوبة
والاستغفار لمحو الذنب والخطيئة.
١) أخرجه مسلم من حديث طارق بن أشيم. )
٢) أخرجه مسلم. )
٣) أخرجه مسلم. )
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٧
قال ابن رجب: "... هذا يقتضي أنَّ جميع الخلق مُفتقِرون إلى
الله تعالى في جلب صالحهم، ودفع مضارهم في أمور دينهم
ودنياهم، وأنَّ العباد لا يملكون لأنفسهم شيًئا من ذلك كلِّه، وأنَّ
من لم يتفضَّل الله عليه بالهدى والرزق فإنه يحرمهما في الدنيا، ومن
.( لم يتفضَّل عليه بمغفرة ذنوبه أوبقتهُ خطاياه في الآخرة " ( ١
ومن فضله سبحانه وعظيم كرمه وكبير منته أن س هل على
عباده الخروج من الذنب، فليس في شريعتنا ذنب على عباده
الخروج من الذنب، فليس في شريعتنا ذنب إذا فعله الإنسان لا
يمكن الخروج منه إلا بمشقة عظيمة أو حرج شديد، بل إنَّ الأمر
يسير لمن يسَّره الله عليه، فالله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب
مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه يفرح
آل عمران : ] وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ ِإلَّا اللَّ هُ بتوبة عبده وأوبته
.[١٣٥
فلله الحمد أو ً لا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
ولقد يسَّر الله تعالى أمر الاستغفار للعباد، فبمقدور كلِّ عبدٍ
الإتيان به في جميع أحواله وأوقاته: في ليله وﻧﻬاره، وفي خلوته
وجلوته، وفي صحته ومرضه، وفي ظعنه وإقامته، وفي قيامه وقعوده،
وهو طاهر ومحدث، لا عذر للمرء في التكاسل عنه بوجهٍ من
الوجوه.
والمتأمِّل في باب الاستغفار يجده مُتشعِّبًا وواسعًا، لا يقتصر
.(٣٨-٣٧/ ١) جامع العلوم والحكم ( ٢ )
٨ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
الإتيان به على التخلُّص من تبعة الذنب فقط، بل إنه يدخل في كث ٍ ير
من العبادات والأعمال والتروك، وله أحكام كثيرة يغفل عنها
الكثير، وهذا ما سأوضح بعضه في هذه الرسالة المختصرة بتوفيق الله
تعالى.
والله أسأل أن ينفع ﺑﻬا، وأن يدَّخرها لي، يوم لا ينفع مال ولا
بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وكتب
عزيز بن فرحان العنزي
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٩
فصل
تعريف الاستغفار
الاستغفار: هو طلب المغفرة من الله تعالى والتجاوز عن الذنب
وعدم المؤاخذة به، إما بترك التوبيخ والعقاب رأسًا، أو بعد
التقرير( ١) به فيما بين العبد وربِّه.
وطلب المغفرة: قد يكون بالقول أو الفعل، فإن المغفرة هي :
وقاية شر الذنب، ومن أهل العلم من يقول: إنَّ الاستغفار من
ويقول: إنما سُمِّي المغفرة والغفار، ،« الستر » والغفر هو ،« الغفر »
وَِإنْ تَعُْفوا وَتَصَْفحُوا : لِما فيه من معنى الستر، يقول تعالى
.[ التغابن: ١٤ ] " وَتَغْفِرُوا َفِإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
أى: تستروا عيوﺑﻬم، وتمهدوا لهم في « وتغفروا » ومعنى
الاعتذار.
ويأتي الاستغفار في القرآن على معانٍ عديدة:
عند فريق من أهل العلم بالتفسير، « الإسلام » فيأتي بمعنى
وَمَا كمجاهد وعكرمة، واستدلُّوا لذلك بقول الله سبحانه وتعالى
كَا َ ن اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وََأنْتَ فِي ِ همْ وَمَا كَا َ ن اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
الأنفال: ٣٣ ]. أي: يسلمون. ] يَسْتَغْفِرُو َ ن
عند فريق آخر، فكلُّ دعاء فيه « الدعاء » ويأتي الاستغفار بمعنى
١) التقرير: أن يوقف الله تعالى عبده على الذنب فيقرُّ العبد به أو جوارحه. )
١٠ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
سؤال الغفران فهو استغفار، إلا أن بين الاستغفار والدعاء عمومًا
وخصوصًا من وجه، فيجتمعان في طلب المغفرة، وينفرد الاستغفار
إن كان بالفعل لا بالقول، كما ينفرد الدعاء إن كان بطلب غير
المغفرة.
وهنا قد يلتبس الأمر على كث ٍ ير ،« التوبة » ويأتي الاستغفار بمعنى
من الناس فيظنون أنَّ الاستغفار هو التوبة، والتوبة هي الاستغفار،
وبتتبُّع النصوص يظهر أنَّ بين التوبة والاستغفار عمومًا وخصوصًا
من وجه، فإذا تفرَّقا اجتمعا، وإذا اجتمعا تفرَّقا، فعند الإطلاق
يدخل كلٌّ منهما في مسمَّى الآخر، وعند اقتراﻧﻬما يكون الاستغفار
طلب وقاية شرِّ ما مضى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شرِّ
ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله.
قال ابن القيم: "وأما الاستغفار فهو نوعان: مفرد، ومقرون
اسْتَغْفِرُوا رَبَّ ُ كمْ : بالتوبة، فالمفرد: كقول نوح عليه السلام، لقومه
، نوح : ١٠ ] ِإنَّهُ كَا َ ن َ غفَّارًا * يُرْسِ ِ ل السَّمَاءَ عََليْ ُ كمْ مِدْرَارً ا
.[١١
َلوَْلا تَسْتَغْفِرُو َ ن اللَّهَ َلعَلَّكُمْ : وقول صالح لقومه
.[ النمل: ٤٦ ] تُرْحَمُو َ ن
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ِإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ : وكقوله تعالى
.[ [البقرة: ١٩٩
وَمَا كَا َ ن اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وََأنْتَ فِي ِ همْ وَمَا كَا َ ن اللَّهُ : وقوله
.[ الأنفال: ٣٣ ] مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُو َ ن
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ١١
اسْتَغْفِرُوا رَبَّ ُ كمْ ُثمَّ تُوبُوا ِإَليْهِ يُمَتِّعْ ُ كمْ : والمقرون كقوله تعالى
هود: ] مَتَاعًا حَسَنًا ِإَلى َأجَ ٍ ل مُسَمى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي َفضْ ٍ ل َفضَْلهُ
.[٣
اسْتَغْفِرُوا رَبَّ ُ كمْ ُثمَّ تُوبُوا ِإَليْهِ يُرْسِ ِ ل : وقول هود لقومه
.[ هود: ٥٢ ] السَّمَاءَ عََليْ ُ كمْ مِدْرَارًا
هُوَ َأنْشََأكُمْ مِنَ الَْأرْ ِ ض وَاسْتَعْمَرَ ُ كمْ فِيهَا : وقول صالح لقومه
.[ هود: ٦١ ] َفاسْتَغْفِرُوهُ ُثمَّ تُوبُوا ِإَليْهِ ِإنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُ ِ جيبٌ
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّ ُ كمْ ُثمَّ تُوبُوا ِإَليْهِ ِإنَّ : وقول شعيب
.[ هود: ٩٠ ] رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ
فالاستغفار المفرد كالتوبة، بل هو التوبة بعينها مع تضمُّنه
طلب المغفرة من الله، وهو محو الذنب وإزالة أثره ووقاية شرّه، لا
كما ظنَّه بعض الناس أﻧﻬا الستر، فإنَّ الله يستر على من يغفر له
ومن لا يغفر له، ولكن الستر لازم مسمَّاها أو جزؤه، فدلالتها عليه
إما بالتضمُّن وإما باللزوم، وحقيقتها وقاية شرِّ الذنب، ومنه المغفرة
لما يقي الرأس من الأذى، والستر لازم لهذا المعنى، وإلا فالعمامة لا
تسمى مغفرًا ولا القبعة ونحوه مع ستره، فلا بد في لفظ المغفرة من
وَمَا : الوقاية، وهذا الاستغفار هو الذي يمنع العذاب في قوله
.[ الأنفال: ٣٣ ] كَا َ ن اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُو َ ن
فإنَّ الله لا يعذِّب مستغفِرًا، وأمَّا من أصرَّ على الذنب، وطلب
من الله مغفرته، فهذا ليس باستغفا ٍ ر مطلق، ولهذا لا يمنع العذاب،
فالاستغفار يتضمَّن التوبة، والتوبة تتضمَّن الاستغفار، وكلٌّ منهما
١٢ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق.
وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى، فالاستغفار: طلب
وقاية شر ما مضى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شر ما
يخافه في المستقبل من سيئات أعماله، فها هنا ذنبان: ذنب قد مضى
فالاستغفار منه: طلب وقاية شره، وذنب يخاف وقوعه، فالتوبة :
العزم على ألاَّ يفعله.
والرجوع إلى الله يتناول النوعين: رجوع إليه ليقيه شرَّ ما
مضى، ورجوع إليه ليقيه شرَّ ما يستقبل من شر نفسه وسيئات
أعماله.
وأيضًا فإنَّ الذنب بمنزلة من ركب طريًقا تؤدِّيه إلى هلاكه، ولا
توصله إلى المقصود، فهو مأمورٌ أن يولِّيها ظهره، ويرجع إلى السلام
التي فيها نجاته، والتي توصله إلى مقصوده وفيها فلاحه، فهنا أمران
لا بدَّ منهما: مفارقة شيء والرجوع إلى غيره، فخُصَّت التوبة
بالرجوع، والاستغفار بالمفارقة، عند إفراد أحدهما بتناول الأمرين،
اسْتَغْفِرُوا : ولهذا جاء - والله أعلم - الأمر يهما مرتبًا بقوله
هود: ٣]. فإنه الرجوع إلى طريق الحقِّ بعد ] رَبَّ ُ كمْ ُثمَّ تُوبُوا ِإَليْهِ
مفارقة الباطل.
وأيضًا: فالاستغفار من باب إزالة الضرر، والتوبة: طلب جلب
المنفعة، فالمغفرة، أن يقيه شر الذنب، والتوبة: أن يحصل له بعد هذه
.( الوقاية ما يحبه، وكلٌّ منهما يستلزم الآخر عند إفراده، والله أعلم( ١
.(٣٠٨-٣٠٧/ ١) مدارج السالكين ( ١ )
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ١٣
فصل
حكم الاستغفار
الاستغفار: عبادة من العبادات الجليلة والُقرَب العظيمة، سواء
استغفر المرء لنفسه أو استغفر لغيره.
والأصل: أنه مندوب إليه، لقول الله سبحانه وتعالى :
.[ المزمل: ٢٠ ] وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ِإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
والأمر هنا يُحمل على الندب، لأنه قد يكون من غير معصية،
فيستغفر المرء لنفسه ولوالديه ولذريته ولإخوانه الذين سبقوه
بالإيمان، وللمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
لكنَّ الاستغفار قد يخرج عند الندب إلى الوجوب، كالاستغفار
من المعصية بعد الوقوع فيها، وكالاستغفار لمن اغتابه على
.( الصحيح( ١
وقد يخرج إلى الكراهة، وذكر بعض أهل العلم لذلك مثا ً لا،
كالاستغفار للميت خلف الجنازة، لأنه توظيف لهذه العبادة في غير
مكاﻧﻬا المشروع، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان
يستغفر خلف الجنازة، ولا عن أحدٍ من أصحابه رضوان الله عليهم
أجمعين، وإنما الاستغفار للميت يكون أثناء الصلاة وبعد الدفن كما
سيمرُّ معنا.
.(٢٩١/ ١) انظر مدارج السالكين ( ١ )
١٤ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
وقد يخرج إلى الحرمة، كالاستغفار للكفار، ولو كانوا أولي
قربى، للنهي الصريح الوارد في كتاب الله جلَّ وعلا، قال تعالى :
مَا كَا َ ن لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا َأ ْ ن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْ ِ ركِينَ وََلوْ َ كانُوا
ُأولِي ُقرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ َلهُمْ َأنَّهُمْ َأصْحَابُ اْلجَحِي ِ م * وَمَا كَا َ ن
اسْتِغَْفارُ ِإبْرَاهِيمَ لَِأِبيهِ ِإلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا ِإيَّاهُ َفَلمَّا تَبَيَّنَ َلهُ َأنَّهُ
.[١١٤ ، التوبة: ١١٣ ] عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرََّأ مِنْهُ
سَوَاءٌ عََليْ ِ همْ اسْتَغَْفرْتَ َلهُمْ َأمْ َلمْ : وقال في حقِّ المنافقين
.[ المنافقون: ٦ ] تَسْتَغْفِرْ َلهُمْ َلنْ يَغْفِرَ اللَّهُ َلهُمْ
فالاستغفار لا ينفعهم شيًئا، وذلك لفداحة ما هم عليه من
الاعتقاد الفاسد المبطن، ولإيغالهم في الكفر واﻧﻬماكهم في الفسق
ِإنَّ : والقبائح، فاستحقوا هذا الجزاء الخطير، قال تعالى
الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الَْأسَْف ِ ل مِنَ النَّا ِ ر وََلنْ تَ ِ جدَ َلهُمْ نَصِيرً ا
.[ [النساء: ١٤٥
* * *
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ١٥
فصل
حاجة العبد إلى الاستغفار
للاستغفار شأن عظيم ومنزلة كبيرة ومكانة سامية، ويكفي
لبيان عظمة الاستغفار مواظبة الأنبياء عليه ودعوة أقوامهم إليه وثناء
الله تعالى على المتلبسين به واللاهجين به في الأسحار، والعبد
بالنسبة إلى ربه عز وجل فقير إليه فقر ذات وفقر صفات، واحتياجه
إلى ربه عز وجل أمر ذاتي لا ينفكُّ عن العبد في كلِّ لحظةٍ وفي كلِّ
حركة وسكنة، ولذلك يتفاوت الناس في إدراك هذا الأمر، وَلمَّا
كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعرف الناس بالله كانوا أكثرهم
خشيًة وإنابة له، وأشدُّهم تمسُّ ً كا ﺑﻬذا الاستغفار، وهكذا العلماء
يأتون في المرتبة الثانية بعد الأنبياء في حيازة الخشية والإنابة، لأنَّ من
ِإنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ : كان بالله أعرف كان له أخوف، قال تعالى
فاطر: ٢٨ ]، ولذلك نجد أهل ] عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ِإنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ
العلم في غالب أحوالهم على هذا المسلك من الاستمساك
بالاستغفار، وكذلك وصاياهم به لا تكاد تغيب عن منهجهم في
التعليم والتوجيه، فهم يُرغِّبون الناس في المحافظة على الاستغفار، لِما
يعلمون ما فيه من السلامة والعصمة ومحق الذنوب وتيسير الأمور
للعبد.
قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى مبينًا حاجة
العبد إلى الاستغفار: "الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه إلى
الفعل المحبوب، ومن العمل الناقص إلى العمل التام، ويرفع العبد من
١٦ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل، فإنَّ العابد لله والعارف بالله
في كلِّ يوم، بل في كل ساعة، بل في كل لحظة، يزداد علمًا بالله
وبصيرة في دينه وعبوديته، بحيث يجد ذلك في طعامه وشرابه ونومه
ويقظته وقوله وفعله، ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات
العالية، وإعطائها حقها، فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل
وأطراف النهار، بل هو مضطرٌّ إليه دائمًا في الأقوال والأحوال، في
الغوائب والمشاهد، لِما فيه من المصالح وجلب الخيرات ودفع
المضرَّات، وطلب الزيادة في القوة في الأعمال القلبية والبدنية اليقينية
الإيمانية.
وقد ثبتت دائرة الاستغفار بين أهل التوحيد، واقتراﻧﻬا بشهادة
ألاَّ إله إلا الله من أولهم إلى آخرهم، ومن آخرهم إلى أولهم، ومن
الأعلى إلى الأدنى، وشمول دائرة التوحيد والاستغفار للخلق كلِّهم،
وهم فيها درجات عند الله، ولكلِّ عام ٍ ل مقاٍم معلوم، فشهادة ألاَّ
إله إلا الله بصد ٍ ق ويق ٍ ين تُذهب الشرك كله، دقَّه وجلَّه، خطأه
وعمده، أوله وآخره، سرَّه وعلانيته، وتأتي على جميع صفاته
وخفاياه ودقائقه.
والاستغفار يمحو ما بقي من عثراته ويمحو الذنب الذي هو من
شُعَب الشرك، فإنَّ الذنوب كلها من شعب الشرك، فالتوحيد
» : يذهب أصل الشرك، والاستغفار يمحو فروعه، فأبلغ الثناء قول
فأمره بالتوحيد ،« أستغفر الله » : وأبلغ الدعاء قول ،« لا إله إلا الله
والاستغفار لنفسه ولإخوانه من المؤمنين".
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ١٧
وقال: ".... التوبة من أعظم الحسنات، والحسنات كلها
مشروط فيها الإخلاص لله، وموافقة أمره باتباع رسوله، والاستغفار
من أكبر الحسنات، وبابه واسع، فمن أحسَّ بتقصير في قوله أو
عمله أو حاله أو رزقه، أو تقلب قلب؛ فعليه بالتوحيد والاستغفار؛
ففيهما الشفاء إذا كانا بصد ٍ ق وإخلاص، وكذلك إذا وجد العبد
تقصيرًا في حقوق القرابة والأهل والأولاد والجيران والإخوان؛ فعليه
بالدعاء لهم والاستغفار، قال حذيفة بن اليمان للنبي صلى الله عليه
أين أنت من » : وسلم: إنَّ لي لسانًا ذربًا على أهلي. فقال له
.(١) "« الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة
* * *
١) مجموع الفتاوى قلت: والحديث رواه أحمد والنسائي والدارمي والبيهقي والطبراني )
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه بأسانيد لا يخلو كلُّ واحد منها من مقال، وله
شواهد في الصحيحين.
١٨ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
فصل
فضل الاستغفار
ورد في فضل الاستغفار نصوص في الكتاب والسنة، كلها تشير
إلى أهمية الاستغفار وفضله، وكثرة خيره وبركته، وكبير عوائده
وفوائده، على المستغفِر والمستغَفر له، وقد تنوَّعت دلالات نصوص
القرآن والسنة في ذلك ما بين أمرٌ به وإرشادٌ إليه، وحكاية ما عليه
حال الأنبياء - عليهم السلام - من التمسُّك به، كلُّ ذلك لبيان
فضله، ولكونه عبادة محبَّبة إلى الله تعالى.
فممَّا يدلُّ على فضل الاستغفار :
أو ً لا- ثناء الله تعالى على المستغفرين:
.[ الذاريات: ١٨ ] وَاْلمُسْتَغْفِ ِ رينَ ِباْلَأسْحَا ِ ر : يقول تعالى
وهو من ُثلث الليل الأخير، ،« سَحَر » والأسحار: جمع
وتخصيص السحر بالاستغفار لأنَّ الدعاء فيه أقرب إلى الإجابة، إذ
العبادة حينئذ أشقُّ والنفس أصفى، والربُّ تعالى ينزل نزو ً لا يليق
هل من مستغفر فاغفر » : بجلاله وعظمته إلى سماء الدنيا، ويقول
.(١) «؟ له
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والناس في آخر الليل يكون في
قلوﺑﻬم من التوجه والتقرُّب والرقَّة ما لا يوجد في غير ذلك الوقت،
١) حديث قدسي أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة. )
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ١٩
هل من داع؟ هل من » : وهذا مناسب لنزوله إلى سماء الدنيا وقوله
.(١) "« سائل؟ هل من تائب
ولذلك َلمَّا طلب أبناء يعقوب عليه السلام من أبيهم أن
« سَوْفَ َأسْتَغْفِرُ َل ُ كمْ رَبِّي » : يستغفر لهم، أجَّلهم إلى السَّحر، وقال
[يوسف: ٩٨ ]. قاله ابن مسعود والنخعي وعمر بن قيس وابن
.( جريج وغيرهم ( ٢
سَلَامٌ عََليْكَ سََأسْتَغْفِرُ َلكَ رَبِّي ِإنَّهُ : وهكذا قال إبراهيم لأبيه
مريم: ٤٧ ]. قيل: إنه أخَّر الاستغفار له إلى ] كَا َ ن ِبي حَفِيا
السحر.
ثانيًا- ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم للاستغفار..
ومما يدلُّ على فضله وكثرة خيره وبركته ملازمة النبي صلى الله
عليه وسلم له، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلاَّ الأفضل
من العمل، فض ً لا عن الملازمة التامة له، فقد ثبت أنَّ النبي صلى الله
عليه وسلم واظب على الاستغفار، حتى كان شعارًا ظاهرًا له، وقد
جاءت نصوص كثيرة ﺑﻬذا، فمن ذلك:
• عن الأغر المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
إنه ليُغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في كل » : الله عليه وسلم
.(٣) « يوم مائة مرَّة
.(١٣١-١٣٠/ ١) مجموع الفتاوى ( ٥ )
.(٥١٥/ ٢) تفسير ابن كثير ( ٤ )
٣) أخرجه أحمد ومسلم. )
٢٠ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
• وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من » : عليه وسلم
.(١) « مائة مرة
• وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " كنا نعدُّ لرسول الله
ربِّ اغفر » : صلى الله عليه وسلم في اﻟﻤﺠلس الواحد مائة مرة قول
.(٢) "« لي وتبْ عليَّ إنك أنت التواب الرحيم
ثالًثا: أن الاستغفار هو شعار الأنبياء جميعًا. عليهم الصلاة
والسلام:
فما من نبيٍّ إلا استغفر ودعا أمته إلى الاستغفار، قال تعالى على
لسان آدم وحواء عليهما السلام وهما يستغفران الله من الخطيئة :
رَبَّنَا َ ظَلمْنَا َأنُْفسَنَا وَِإنْ َلمْ تَغْفِرْ َلنَا وَتَرْحَمْنَا َلنَكُونَنَّ مِنَ
.[ الأعراف: ٢٣ ] " الْخَاسِرِينَ
َقا َ ل رَبِّ ِإنِّي : وقال تعالى على لسان موسى عليه السلام
َ ظَلمْتُ نَ ْ فسِي َفا ْ غفِرْ لِي َفغََفرَ َلهُ ِإنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
وَ َ ظ نَّ : [القصص: ١٦ ]، وقال تعالى عن داود عليه السلام
.[ ص: ٢٤ ] دَاوُودُ َأنَّمَا َفتَنَّاهُ فَاسْتَغَْفرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وََأنَا بَ
وقال تعالى على لسان نوح عليه السلام وهو يعظ قومه :
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ِإنَّهُ كَا َ ن َ غفَّارًا * يُرْسِ ِ ل السَّمَاءَ عََليْ ُ كمْ مِدْرَارًا
١١ ]، وقال تعالى على لسان صالح عليه السلام وهو ، [نوح: ١٠
١) أخرجه البخاري. )
٢) أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح. )
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٢١
النمل : ] " َلوَْلا تَسْتَغْفِرُو َ ن اللَّهَ َلعَلَّكُمْ تُرْحَمُو َ ن : يعظ ثمودًا
هُوَ َأنْشََأكُمْ مِنَ الَْأرْ ِ ض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا : ٤٦ ]. وفي آية أخرى
[ هود: ٦١ ] َفاسْتَغْفِرُوهُ ُثمَّ تُوبُوا ِإَليْهِ ِإنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُ ِ جيبٌ
وقال تعالى على لسان هود عليه السلام وهو يعظ قومه :
، اسْتَغْفِرُوا رَبَّ ُ كمْ ُثمَّ تُوبُوا ِإَليْهِ يُرْسِ ِ ل السَّمَاءَ عََليْ ُ كمْ مِدْرَارً ا
[هود: ٥٢ ]، وقال تعالى على لسان شعيب عليه السلام :
هود : ] وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّ ُ كمْ ُثمَّ تُوبُوا ِإَليْهِ ِإنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ
.[٩٠
والنصوص في هذا الأمر كثيرة جدًا مما يدل على عظيم مقام
الاستغفار.
رابعًا- أنَّ الاستغفار أساس العبودية ورُوحها؛ لأنَّ المستغفِر إنما
يُظهر كمال ُذلِّه وافتقاره وخضوعه بين يدي مولاه، لعلمه أنه
وحده الخالق المتفرد والمستحق للعبادة، وأنه بيده الأمر كله، وإليه
يرجع الأمر كله، وأنه لا يغفر الذنوب إلا هو، ولا يقبل العثرات،
ويغفر الزلات ويتجاوز عن الخطيئات إلا هو، فهنا لا يتوكل العبد
إلا عليه، ولا يرجو أحدًا سواه، ولا يسأل غيره ولا يستعين إلا به،
فهاجسه الذي يُقلقه على الدوام: طلب رضا الله وعفوه، فهو في
كلِّ لحظة يستشعر افتقاره إلى ربه وحاجته إليه، ومن يحمل مثل هذا
الأمر يكون قد نجا بإذن الله تعالى من الأمن من مكر الله، ومن
القنوط من رحمته، لأنَّ غير المستغفر أحد رجلين: إما أنه آمن من
الأعراف : ] َفَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ ِإلَّا اْلَقوْمُ الْخَاسِرُو َ ن ، مكر الله
٢٢ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ ِإلَّا ٩٩ ]. وإما أنه قانط من رحمة الله
.[ الحجر: ٥٦ ] الضَّالُّو َ ن
قال ابن القيم: "أساس كلِّ خير أن تعلم أنَّ ما شاء الله كان
وما لم يشأ لم يكن؛ فتيقن حينئذ أنَّ الحسنات من نعمه فتشكره
عليها وتتضرع إليه ألاَّ يقطعها عنك، وأنَّ السيئات من خذلانه
وعقوبته فتبتهل إليه أن يحول بينك وبينها، ولا يكلك في فعل
الحسنات وترك السيئات إلى نفسك، وقد أجمع العارفون على أنَّ
كلِّ خير فأصله بتوفيق الله للعبد، وكل شرٍّ فأصله خذلانه لعبده،
وأجمعوا أنَّ التوفيق: ألاَّ يكلك الله إلى نفسك، وأنَّ الخذلان هو
أن يُخلي بينك وبين نفسك، فإذا كان كل خير، فأصله التوفيق،
وهو بيد الله لا بيد العبد، فمفتاحه الدعاء، والافتقار وصدق
اللجوء والرغبة والرهبة إليه، فمتى َأعطى العبد هذا المفتاح فقد أراد
أن يُفتح له، ومتى أضله عن المفتاح بقي باب الخير مرتجًّا دونه".
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: "إني لا أحمل همَّ الإجابة
ولكن همَّ الدعاء، فإذا ُألهمت الدعاء فإنَّ الإجابة معه".
وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده، ورغبته في ذلك يكون
توفيقه سبحانه وإعانته، فالمعونة من الله على قدر هممهم وثباﺗﻬم
ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك، فالله
سبحانه أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، يضع التوفيق في مواضعه
اللائقة به والخذلان في مواضعه اللائقة به، هو العليم الحكيم، وما
ُأتي من ُأتي إلاَّ من قِبل إضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدعاء، ولا
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٢٣
ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه إلاَّ بقيامه بالشكر، وصدق الافتقار
.( والدعاء... " ( ١
خامسًا- أن في الاستغفار مصالح لا يدركها العبد.
قال ابن القيم وهو يتحدَّث عن فوائد التضرُّع إلى الله
تعالى، ومشاهدة الذنب: "ومنها أنَّ الله سبحانه إذا أراد بعبده خيرًا
أنساه رؤية طاعاته، ورفعها من قلبه ولسانه، فإذا ابتُلِي بالذنب
جعله نصب عينيه، ونسي طاعاته، وجعل همَّه كلَّه بذنبه، فلا يزال
ذنبه أمامه، إن قام أو قعد أو غدا أو راح، فيكون هذا عين
إنَّ العبد ليعمل الذنب » : الرحمة في حقِّه، كما قال بعض السلف
قالوا: وكيف ،« فيدخل به الجنة، ويعمل الحسنة فيدخل ﺑﻬا النار
يعمل الخطيئة فلا تزال نصب عينيه كلما ذكرها بكى » : ذلك؟ قال
وندم وتاب واستغفر وتضرَّع وأناب إلى الله وذلَّ له وانكسر
وعمل لها أعما ً لا، فتكون سبب الرحمة في حقِّه، ويعمل الحسنة فلا
تزال نصب عينيه يمنُّ ﺑﻬا ويراها ويعتدُّ ﺑﻬا على ربه وعلى الخلق
ويتكبر ﺑﻬا ويتعجب من الناس كيف لا يعظمونه ويكرمونه، ويجلونه
عليها، فلا تزال هذه الأمور به حتى تقوى عليه آثارها ف تدخله
.« النار
فعلامة السعادة: أن تكون حسنات العبد خلف ظهره،
وسيئاته نصب عينيه، وعلامة الشقاوة: أن يجعل حسناته نصب
عينيه، وسيئاته خلف ظهره، والله المستعان.
.(١٢٨- ١) الفوائد ( ١٢٧ )
٢٤ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
ومنها: أن شهود العبد ذنوبه وخطاياه موجب له ألا يرى
لنفسه على أحد فض ً لا، ولا له على أحد حقَّا، فإنه يشهد عيوب
نفسه وذنوبه، فلا يظنُّ أنه خيرٌ من مسلم يؤمن بالله ورسوله،
ويُحرِّم ما حرم الله ورسوله، وإذا شهد ذلك من نفسه، لم يرَ لها
على الناس حقوًقا من الإكرام يتقاضاهم إيَّاها، ويذمُّهم على ترك
القيام ﺑﻬا، فإﻧﻬا عنده أخسُّ قدرًا وأقلُّ قيمًة من أن يكون له ﺑﻬا على
عباد الله حقوق، يجب عليهم مراعاﺗﻬا، أو له عليهم فضل يستحق
أن يكرم ويعظم ويقدَّم لأجلها، فيرى أن من سلَّم عليه أو
لقيه بوجه منبسط فقد أحسن إليه، وبذل له ما لا يستحقه،
فاستراح هذا في نفسه، وأراح الناس من شكايته وغضبه على
الوجود وأهله، فما طاب عيشه وما أنعم باله وما أقرَّ عينه، وأين
هذا ممن لا يزال عاتبًا على الخلق شاكيًا ترك قيامهم بحقه، ساخ ً طا
عليهم وهم عليه أسخط؟!
ومنها: أنه يوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكر فيها،
فإنه في شغل بعيب نفسه، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس،
وويل لمن نسي عيبه وتفرغ لعيوب الناس، هذا من علامة الشقاوة،
كما الأول من أمارات السعادة.
ومنها: أنه إذا وقع في الذنب شهد نفسه مثل إخوانه الخطائين،
وشهد أنَّ المصيبة واحدة، والجميع مشتركون في الحاجة، بل في
الضرورة إلى مغفرة الله وعفوه ورحمته، فكما يحب أن يستغفر
لأخيه المسلم، فيصبر هجيراه: ربِّ اغفر لي ولوالدي وللمسلمين
والمسلمات، وللمؤمنين والمؤمنات.
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٢٥
فإذا شهد العبد أنَّ إخوانه مصابون بمثل ما أصيب به، محتاجون
إلى ما هو محتاج إليه، لم يمتنع من مساعدﺗﻬم، إلا لفرط جه ٍ ل بمغفرة
الله وفضله، وحقيقٌ ﺑﻬذا ألاَّ يساعد؛ فإنَّ الجزاء من جنس العمل،
وقد قال بعض السلف: إنَّ الله َلما عتب على الملائكة بسبب قولهم
[ البقرة: ٣٠ ] َأتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
وامتحن هاروت وماروت بما امتحنهما به، جعلت الملائكة بعد
( ذلك تستغفر لبني آدم، وتدعو الله لهم " ( ١
* * *
.(٢٩٩ -٢٩٧/ ١) مفتاح دار السعادة ( ١ )
٢٦ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
فصل
ما هو الاستغفار المطلوب؟
مرَّ معنا أنَّ الاستغفار عبادة من أجلِّ العبادات، وأنَّ فضله
عظيم وعوائده أثيرة وخيره عميم، وخيراته على العبد متوالية في
الدنيا والآخرة، وقد ذكرنا ما عليه حال الأنبياء مع الاستغفار،
وسيمرُّ معنا بيان آثاره في فص ٍ ل مستقل، لكنَّ السؤال الذي نطرحه
في هذا الفصل: ما هو الاستغفار المطلوب من العبد الإتيان به؟
والذي به يستنزل المستغفر عطف الله ورحمته ويكون مقبو ً لا بإذن
الله رب العالمين؟
ها هنا قاعدة عند أهل السنة والجماعة يذكروﻧﻬا دائمًا في
شروط قبول العمل، أذكرها قبل الحديث عن الاستغفار المطلوب،
وهي أنَّ العبادة لا تُقبل إلاَّ بشرطين أساسيين:
الأول- أن يكون العمل خالصًا لله تعالى.
والثاني- أن يكون صوابًا على سُنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ويُطرِّدون هذين الشرطين في جميع العبادات، وقد يضيفون
لبعض العبادات شرو ً طا أخرى لافتقارها إليها، والبعض يسميها
وهذه في الحقيقة راجعة إلي ،« شرو ً طا » والبعض يسميها ،« أركانًا »
جنس العبادة المأمور ﺑﻬا، وما ورد بخصوصها من نصوص تضاف
إلى شرطي قبول العمل، فالاستغفار مث ً لا الذي نحن بصدده: عبادة
من العبادات اشترط فيه حتى يكون مقبو ً لا: أن يكون خالصًا لله
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٢٧
تعالى لا يبتغي به صاحبه أحدًا سوى الله تعالى، وأن يكون مشروعًا
ليس فيه ألفا ً ظا شركية: كطلب المغفرة من المقبورين، أو بدعية :
كتوظيفه في وقت محدد غير مشروع في أصل السنة، أو محرمة :
.« اللهم اغفر لي إن شئت » كقول
وأيضًا يذكر كثير من أهل العلم أن من شروطه : أن يكون
التلفُّظ باللسان لهذا الاستغفار مصحوبًا معناه في القلب، وأن يتذكر
الذنب المستغَفر منه في الحال إن كان ثمَّة ذنب، وذلك لتتحقق له
آل ] فَاسْتَغَْفرُوا لِ ُ ذنُوِب ِ ه مْ : نتائج الاستغفار وثمراته، لقوله تعالى
[ عمران: ١٣٥
أما إن كان الاستغفار باللسان فقط دون تذكر معن اه في
الجنان، أو يستغفر وهو مصرٌّ على المعصية، فقد ذكر كثير من أهل
العلم أنه استغفار غير مقبول، لعدم توفر شرط صحته، بل ذكروا
التائب من الذنب كمن » : أنه ذنب يحتاج إلى استغفار، كما روي
لا ذنب له، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ
.( بربِّه!( ١
والتحقيق أن هذا الأمر من شروط قبول الاستغفار، هذا إذا
كان الاستغفار بسبب تقصير في واجب، أو وقوع في محرم،
فيشترط لصحة الاستغفار عن الذنب: أن يصطحبه المستغفر بقلبه،
فيجمع بين الاستغفار باللسان، وتذكر الذنب بالقلب، ليتخلص
منه، وليجتث جذوره العالقة في قلبه.
١) لا يصح مرفوعًا ومعناه صحيح، وصحَّح وَقفه بعض أهل العلم. )
٢٨ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
وقد ذكر بعض أهل العلم من ذوي التحقيق أنَّ من لم يتيسَّر له
استجماع القلب مع اللسان، ولكنه يجاهد نفسه، إلاَّ أن لسانه
يغلب على قلبه، فهذا إن انتفى الإصرار فهو حَسن، بل لا يُنهى
عنه، بل مطالب من العبد أن يرطِّب لسانه بالاستغفار على الدوام،
لأنَّ الاستغفار عن غفلة خيرٌ من الصمت، وهو طريق ووسيلة إلى
انتباه القلب، فاللسان إذا ألف ذكرًا، يوشك القلب أن يألفه،
فيوافقه عليه، ولذلك من مكائد الشيطان على بني الإنسان: منعهم
من الاستغفار بسبب غفلة القلب، فلينتبه!
فالاستغفار على الدوام أمر محمود وخلَّة حميدة، لأنه عباد ة
مستقلة بذاﺗﻬا، يستغفر على ما علمه من ذنوبه رجاء غفراﻧﻬا وما لم
يعلمه مما يصدر منه، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلِّم
اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك » : أصحابه أن يقولوا على الدوام
.(١) « وأنا أعلم، وأستغفرك مما لا أعلم
١) أخرجه أحمد والبخاري في الأدب وغيرهما من حديث أبي هريرة بسند صحيح. )
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٢٩
فصل
من أي شيء يكون الاستغفار؟
إن الاستغفار يكون من ترك الواجبات، ومن الوقوع في
المحرمات، لا كما يظن البعض أن الاستغفار يكون من فعل الذنب
فقط.
وأنقل هنا كلامًا ماتعًا لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يُقرِّر
فيه أنَّ الاستغفار كما أنه واجب على من وقع في المحرمات، كذلك
هو واجب على من ترك الواجبات فيقول: " التوبة والاستغفار
يكون من ترك الواجبات وفعل المحرمات، والأول يخفى على كثير
َفاصِْبرْ ِإنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِ َ ذنِْبكَ : من الناس. قال تعالى
غافر: ٥٥ ]، وقال تعالى: ] وَسَبِّحْ ِبحَمْدِ رَبِّكَ ِبالْعَشِيِّ وَاْلِإبْ َ كا ِ ر
َفاعَْلمْ َأنَّهُ َلا ِإَلهَ ِإلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِ َ ذنِْبكَ وَلِلْمُؤْمِِنينَ وَاْلمُؤْمِنَاتِ
لِيَغْفِرَ َلكَ اللَّهُ مَا تََقدَّمَ مِنْ َ ذنِْبكَ : [محمد: ١٩ ] وقال تعالى
َألَّا تَعْبُدُوا ِإلَّا اللَّهَ ِإنَِّني َل ُ كمْ مِنْهُ : الفتح: ٢]، قال ] وَمَا تََأخَّرَ
نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وََأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّ ُ كمْ ُثمَّ تُوبُوا ِإَليْهِ يُمَتِّعْ ُ كمْ مَتَاعًا
٣]. ومثل هذا في القرآن ، هود: ٢ ] حَسَنًا ِإَلى َأجَ ٍ ل مُسَمى
كثير.
فنقول: التوبة والاستغفار يكون من ترك مأمور ومن فعل
محظور، فإنَّ كلاهما من السيئات والخطايا والذنوب، وترك الإيمان
والتوحيد والفرائض التي فرضها الله تعالى على القلب والبدن من
الذنوب بلا ريب عند كلِّ أحد، بل هي أعظم الصنفين؛ فإنَّ جنس
٣٠ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
ترك الواجبات أعظم من جنس فعل المحرمات، إذ قد يدخل في ذلك
ترك الإيمان والتوحيد، ومن أتى بالإيمان والتوحيد لم يخلد في النار
ولو فعل ما فعل، ومن لم يأت بالإيمان والتوحيد كان مخلدًا، ولو
كانت ذنوبه من جهة الأفعال قليلة: كالزهَّاد والعُبَّاد من المشركين
وأهل الكتاب، كعباد مشركي الهند وعُباد النصارى وغيرهم، فإﻧﻬم
لا يقتلون ولا يزنون ولا يظلمون الناس، لكنَّ نفس الإيمان
والتوحيد الواجب تركوه.
ولكن يقال: ترك الإيمان والتوحيد الواجب إنما يكون مع
الاشتغال بضدِّه، وضده إذا كان كفرًا فهم يُعاقبون على الكفر،
وهو من باب المنهيِّ عنه، وإن كان ضده من جنس المباحات
كالاشتغال بأهواء النفس ولذاﺗﻬا من الأكل والشرب والرئاسة وغير
ذلك عن الإيمان الواجب، فالعقوبة هنا لأجل ترك الإيمان، لا لأجل
ترك هذا الجنس.
وقد يقال: كلُّ من ترك الإيمان والتوحيد فلا يتركه إلاَّ إلى
كفٍر وشك، فإنَّ النفس لا بدَّ لها من إله تعبده، فمن لم يعبد الرحمن
عبد الشيطان. فيقال: عباد الشيطان جنس عام، وهذا إذا أمره أن
يشتغل بما هو مانع له من الإيمان والتوحيد يقال عَبَدَه، كما أنَّ من
أطاع الشيطان فقد عبدَه ولكن عبادة دون عبادة.
والناس نوعان: طلاب دين، وطلاب دنيا.
فهو يأمر طلاب الدين بالشرك والبدعة، كعباد المشركين وأهل
الكتاب، ويأمر طلاب الدنيا بالشهوات البدنية.
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٣١
إنَّ أخوف ما » : وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
أخاف عليكم شهوات الغيِّ في بطونكم وفروجكم ومضلات
..(١) « الفتن
لكل عامل شرة، » : ولهذا قال الحسن البصري لما ذكر الحديث
ولكل شرة فترة، فإنَّ صاحبها سدَّد وقارب فارجوه، وإن ُأشير
.(٢)« إليه بالأصابع فلا تعدوه
فقالوا: أنت إذا مررت في السوق أشار إليك الناس.
فقال: إنه لم يع ِ ن هذا، وإنما أراد المبتدع في دينه والفاجر في
دنياه؛ فإنَّ ترك الواجب وفعل المحرَّم متلازمان، ولهذا كان من فعل
ما ﻧﻬى عنه يقال: إنه عصى الأمر، ولو قال لها: "إن عصيتِ أمري
فأنت طالق"، فنهاها، فعصته، ففيه وجهان: أص حهما أﻧﻬا تُطلَّق،
وبعض الفقهاء يُعلِّل ذلك بأنَّ هذا يُعدُّ في العرف عاصيًا، ويجعلون
هذا في الأصل نوعين، والتحقيق: أنَّ كلَّ ﻧﻬي ففيه طلب واستدعاء
لِما يقصده الناهي، فهو أمر، فالأمر يتناول هذا وهذا، ومنه: قول
ِإنَّكَ َلنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَ َ كيْفَ تَصِْبرُ عََلى : الخضر لموسى
مَا َلمْ تُحِ ْ ط ِبهِ خُبْرًا * قَا َ ل سَتَ ِ جدُِني ِإ ْ ن شَاءَ اللَّهُ صَاِبرًا وََلا
فَِإنِ : ٦٩ ]. وقال له – الكهف: ٦٧ ] َأعْصِي َلكَ َأمْرًا
اتَّبَعْتَِني َفَلا تَسَْأْلِني عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِ َ ث َلكَ مِنْهُ ذِ ْ كرًا
١) رواه أحمد بسند صحيح. )
٢) رواه الترمذي وابن حبان من حديث أبي هريرة، ورواه أحمد والطحاوي من )
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بسند حسن.
٣٢ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
َفَلا تَسَْأْلِني عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِ َ ث َلكَ : [الكهف: ٧٠ ]، فقوله
ومنه قول ، وََلا َأعْصِي َلكَ َأمْرًا : قد تناوله قوله مِنْهُ ذِ ْ كرًا
مَا مَنَعَكَ ِإ ْ ذ رََأيْتَهُمْ ضَلُّوا * َألَّا تَتَِّبعَ ِ ن َأَفعَصَيْتَ : موسى لأخيه
اخُْل ْ فِني فِي َقوْمِي : ٩٣ ]، وموسى قال له ، طه: ٩٢ ] َأمْ ِ ري
الأعراف: ١٤٢ ]. ﻧﻬي: وهو ] وََأصْلِحْ وََلا تَتَِّبعْ سَِبي َ ل اْلمُ ْ فسِدِينَ
لامه على أنه لم يتبعه، وقال: أفعصيت أمري؟ وعباد العجل كانوا
عََليْهَا مَلَائِ َ كةٌ : مفسدين، وقد جعل هذا كّله أمرًا، وكذلك قوله
غِلَاظٌ شِدَادٌ َلا يَعْصُو َ ن اللَّهَ مَا َأمَرَهُمْ وَيَ ْ فعَُلو َ ن مَا يُؤْمَرُو َ ن
[التحريم: ٦] فهم لا يعصونه إذا ﻧﻬاهم. وقوله عن الرسول صلى
َفلْيَحْ َ ذ ِ ر الَّذِينَ يُخَالُِفو َ ن عَنْ َأمْ ِ رهِ َأ ْ ن تُصِيبَه مْ : الله عليه وسلم
النور: ٦٣ ]، فمن ركب ما ﻧﻬى عنه ] فِتْنَةٌ َأوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ َألِيمٌ
طه : ] وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ َفغَوَى : فقد خالف أمره، وقال تعالى
وَمَا كَا َ ن لِمُؤْمِ ٍ ن وََلا : ١٢١ ] وإنما كان فع ً لا منهيًا عنه، وقوله
مُؤْمِنَةٍ ِإ َ ذا َقضَى اللَّهُ وَرَسُوُلهُ َأمْرًا َأ ْ ن يَ ُ كو َ ن َلهُمُ اْلخِيَرَُة مِنْ
الأحزاب: ٣٦ ]، هو يتناول ما نُهي عنه، أقوى مما يتناول ] َأمْ ِ رهِمْ
إذا ﻧﻬيتكم عن شيء » : ما ُأمر به، فإنه قال في الحديث الصحيح
١)، وقوله : ) « فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ َ كَفرُوا وَعَصَوُا الرَّسُو َ ل َلوْ تُسَوَّى ِبهِمُ
النساء: ٤٢ ] فالمعصية: مخالفة الأمر، ومخالف النهي ] اْلَأرْضُ
عاص، فإنَّ مخالف الأمر وفاعل المحظور، قد يكون أظهر معصية من
تارك المأمور، وبالجملة فهما متلازمان. كل من أمر بشيء فقد ﻧﻬى
١) أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة. )
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٣٣
عن فعل ضده، ومن ﻧﻬى عن فعل أمر بفعل ضده، كما بسط في
موضعه، ولكن لفظ الأمر يعمُّ النوعين، واللفظ العام قد يخصُّ أحد
نوعيه باسم، ويبقى الاسم العام للنوع الآخر، فلفظ الأمر عام، لكن
خصُّوا أحد النوعين بلفظ النهي، فإذا قرن النهي بالأمر كان المراد
به أحد النوعين لا العموم ( ١). ا ه. باختصار.
وأما الاستغفار من المحرَّمات فهو واجب أيضًا، وهو المتبادر
عند إطلاق الاستغفار، أنه يكون مِن فعل المحرم، والنصوص الآمرة
بالاستغفار من فعل المحرمات أكثر من أن تُحصَى في الكتاب
والسنة، من ذلك:
وَمَنْ يَعْمَ ْ ل سُوءًا َأوْ يَ ْ ظلِمْ نَفْسَهُ ُثمَّ يَسْتَغْفِ ِ ر : يقول الله تعالى
.[ النساء: ١١٠ ] اللَّهَ يَ ِ جدِ اللَّهَ َ غُفورًا رَحِيمًا
وَالَّذِينَ ِإ َ ذا َفعَلُوا فَاحِشًَة َأوْ َ ظَلمُوا َأنُْفسَهُمْ : ويقول تعالى
َ ذ َ كرُوا اللَّهَ فَاسْتَغَْفرُوا لِ ُ ذنُوِب ِ همْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ ِإلَّا اللَّهُ وََلمْ
.[ آل عمران: ١٣٥ ] يُصِرُّوا عََلى مَا َفعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُو َ ن
* * *
٦٧٥ )، وقد أوردت غالب النص لما يشتمل عليه من -٦٧٠/ ١) مجموع الفتاوى ( ١١ )
قواعد وفوائد.
٣٤ الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره)
فصل
صيغ الاستغفار
ورد الاستغفار بصيغ متعددة، سبق ذكر بعض منها على سبيل
الإجمال، واستخدام واحد من هذه الصيغ مجزئ في تحقيق الغرض
والمقصود، إلا ما جاء النص بورود بعض الصيغ التي تُقال في بعض
العبادات وفي بعض الأوقات، فهذه ينبغي التقيُّد بألفاظها، ومكان
بياﻧﻬا سأذكره في الحديث عن أنواع الاستغفار المقيد، وهنا أذكر
بعض الصيغ الواردة في السنة من ذلك:
اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، » ( (أ
وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما
صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا
وهذا هو سيد الاستغفار. .« يغفر الذنوب إلا أنت
(ب) أستغفر الله الذي لا إله إلا هو، وأتوب إليه.
(ج) رب اغفر لي وتُب علي، إنك أنت التواب الرحيم.
(د) سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه.
(ه) أستغفر الله أستغفر الله.
(و) اللهم اغفر لي.
(ز) غفرانك، غفرانك.
(ح) أستغفر الله الذي لا إله إلا الله هو الحي القيوم، وأتوب
إليه.
الاستغفار .. (فضله.أقسامه.أحكامه.آثاره) ٣٥
(ط) وإذا كان الاستغفار للغير، كالوالدين والمؤمنين يقول:
رَبَّنَا ا ْ غفِرْ َلنَا : نوح: ١]. ويقول ] رَبِّ ا ْ غفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ
وَلِِإخْوَاِننَا الَّذِينَ سَبَقُونَا ِباْلِإيمَانِ وََلا تَجْعَ ْ ل فِي ُقُلوِبنَا غِ ً لا
الحشر: ١٠ ]. أو ] لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا ِإنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
وهكذا. « اللهم اغفر له وارحمه » أو « اللهم اغفر لأخي »
وهذا على سبيل الذكر لا الحصر.
وهنا فائدة متعلِّقة بلفظٍ ﻧﻬى الشارع عن استخدامه حال
الذكر والدعاء لِما يشتمل عليه من سوء الأدب مع المولى تبارك
وتعالى، سبق وأن أشرت إليها، وهي ما رواه أبو هريرة – رضي
لا يقولن » : الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم
.(١)« المسألة، فإن الله لا مستكره له
وقد بوَّب اﻟﻤﺠدِّد الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله
– على هذا الحديث بابًا في كتاب التوحيد، لينبه على أنَّ قول
الرجل: اللهم اغفر لي إن شئت: دليل على قلة اهتمامه في طلب
المغفرة، وأن قوله هذا متضمن استغناءه عن ربه، وعدم اكتراثه
بذنبه، وهو مما يتنافى مع التوحيد الواجب، وأرشد الرسول صلى الله
.« وليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه » : ١) البخاري ومسلم، ولمسلم )