دقائق الليل الغالية
المؤلف أبو الحسن بن محمد الفقيه
الناشر دار ابن خزيمة
http://www.ktibat.com/showsubject-link-653.htm
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد:
فإن الليل مدرسة الزاهدين.. وخلوة العابدين.. وشرف الصالحين.. وسلوان المؤمنين.. يجددون فيه الإيمان.. ويحيون فيه الجنان.. ويقمعون به الشيطان..
فساعاته مباركة.. ولحظاته طيبة.. ونسماته تتدفق بالرحمة والسكينة واللذة والطمأنينة.
فهو دأب الصالحين.. ووقت تضرع المحتاجين.. واستغفار التائبين.. وقضاء حوائج الراغبين.
يحيون ليلهم بطاعة ربهم
بتلاوة وتضرع وسؤال
وعيونهم تجري بفيض دموعهم
مثل انهمال الوابل الهطال
في الليل رهبان وعند جهادهم
لعدوهم من أشجع الأبطال
فطوبى لمن أحياه بالقيام.. وآثره على المنام.. فحاز به شرف الدنيا وحسن الختام!
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» [رواه مسلم].
وعن جابر قال: سئل رسول الله : أي الصلاة أفضل؟ قال: «طول القنوت» [رواه مسلم].
فتعال – أخي – نطلع على فوائد القيام وفضائله.. ونتنسم من عبير السلف نسمات تحيي في النفوس همة التبتل والعبادة.. والطاعة والزهادة..
فضائل قيام الليل
لحظات السحر.. لحظات خير وفضيلة.. ومغفرة ووسيلة.. وعبادة جليلة.
ففيها تتنزل البركات.. وتتغشى العابدين الرحمات.. وتستجاب السؤالات.. ويتجاوز فيه الله سبحانه عن الزلات والخطيئات.
بل وينزل سبحانه إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلال وجهه وعظيم ذاته، إكرامًا للسائلين.. وإيقاظًا لهمم العارفين.. وتسلية لعباده المؤمنين.
فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» [رواه البخاري ومسلم].
فيا لها من لحظات ساكنة.. ويا له من جود عريض.. وكرم سخي.. وإحسان وفيّ!
فأين من يستثمر تلك اللحظات في دعوة صادقة، وتوبة ناصحة ، يصلح الله له بها أمر دينه؛ فلا ينثلم، وأمر رزقه فلا ينعدم، وأمر مآله فلا يخيب أبدًا.
فيا أيها الإنسان ما أجهلك.. وما أعجلك تؤثر نوم ساعة على نيل راحة خالدة..!
ويا أيها الإنسان ما أظلمك... تعصي ويعرض عليك الغفران فتأبى!
وسبحانك ربي ما أرحمك وأحلمك.. تبسط يدك بالليل ليتوب مسيء النهار وتبسط يدك بالنهار ليتوب مسيء الليل!
يا نائم الليل كم ترقد
قم يا صديقي قد دنا الموعد
وخذ من الليل وأوقاته
وردًا إذا ما هجع الرقد
من نام حتى ينقضي ليله
متى يبلغ المنزل أو يسعد
ومن أجلّ فوائد القيام:
1- خلوة السحر:
فخلوة السحر سكينة النفوس.. وطمأنينة القلوب.. تنساب فيها دموع المخلصين على خدودهم تترى.. قبل دخولهم على الله بالصلاة.. ويحصل بها هدوء الطبع.. وسمت الخلُق.. وسكون الأعضاء منسجمة في سكونها مع سبات الليل الهاديء.. وصماته الهامد..!
وإن المستيقظ من فراش المنام.. إلى رحاب القيام.. ليستيقظ يقظة ليس من نومه فقط وإنما من غفلة طالما حجبت قلبه عن الله.. وحرمته من لذة لقاه.. فهو بقومته الليلة يجلو ظلمات نهارية تخللته في يومه.. ولازمته في يقظته ونومه.. فاستيقظ يغسل قلبه.. ويذهب ذنبه.. ويستغفر ربه.. ليحيى حياة من جديد وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود: 114].
وهذه الخلوة هي – والله – مدرسة الإخلاص.. فيها ينشأ وينمو.. وفيها يكبر ويزهو.. وبها يحفظ ويربو.. لأنها عبادة غائبة عن أعين الناس.. وعن مديح الناس.. فلا يقدم عليها إلا مخلص يبتغي بها وجه الله والدار الآخرة.
ولذا فإن لها حلاوة أيما حلاوة! ولذاذة أيما لذاذة!
فالخالي في الأسحار.. بالتبتل والأذكار.. والدعوات والاستغفار.. لا يشعر بغربة في نفسه ولا بوحدة في حسه.. بل هو في أنس الله يرتعي.. وفي اجتماعه به ينعم.. وبقربه يتسلى.. وبحبه يتلذذ.. وبمعيته يسعد.. وبالخضوع الصادق يتعبد.
اطلبوا لأنفسكم
مثل ما وجدت أنا
قد وجدت لي سكنا
ليس في هواه عنا
إن بعدت قربني
وإن قربت منه دنا
ومن عظيم حب المخلص في القيام للقيام؛ أنه يشتاق لليل إذا حل النهار.. ويظل ينتظر من النهار أفوله.. ومن الليل حلوله.. لما يجده في تلك الخلوات من متعة العبادة ونشوة وسعادة.. بل إنه يستثقل في نفسه كثرة المخالطة بالناس.. ولا يحصل له الأنس ولا السكينة إلا في خلوة السحر السكينة!
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي
متأخر عنكم ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة
حبًا لذكرك فليلمني اللوَّم
ولا تزال تلك الخلوة تؤتي أكلها حتى تدفع المؤمن إلى العزوف عن الدنيا وأوحالها.. وترك الاشتغال بأزبالها..
فإنما هي جيفة مستحيلة
عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلمًا لأهلها
وإن تجتذبها نافستك كلابها
ولا تزال تلك الخلوة بالمؤمن حتى تهذب لسانه وتقوم مقاله وتزين فعاله.. وتطهر نفسه وترقق حسه.. فإذا به حيي كريم رفيق رحيم.
ولا تزال به حتى تكسوه نضارة الوجه.. وحلاوة البشر.. ومهابة القدوم.. ورفعة الشأن، فإذا به يخطو نحو الكمال.
فأين ساعة غطيط وشخير.. من هذه الفوائد الذهبية.. في خلوة السحر!!
ومن فوائدها أيضًا:
1- أنها ساعة مباركة.. يُكثر الله فيها القليل.. ويُربي فيها الضئيل.. ويجزي على العبادة فيها خيرًا كثيرًا.
2- أنها تمرس العبد على الصدق مع الله.. وعلى عدم التزين للمخلوق، وتشغله بخاصة نفسه.. ومطالعة عيبه والاستغفار لذنبه..
3- أنها تعلمه الزهد في الدنيا وتميت الطمع والحرص عليها في قلبه، وتجعله مقبلاً على الله مدبرًا عن الدنيا.
4- أنها تورثه رقة القلب.. ورفق الطبع.. والتواضع والخلق..
5- أنها ترغبه في العزلة المحمودة، والأنس بالله على كل حال، فإن حلاوة أنسه بالله في خلوة الليل تدفعه إلى طلبها في النهار فيستثقل الاجتماع بالناس في غير ذكر الله تعالى.
ليس للناس موضع في فؤادي
زاد فيه هواك حتى ملاهُ
2- استجابة الدعوات:
وقيام الليل هو مفتاح استجابة الدعاء.. وقضاء الحوائج.. ونزول العطاء.. قال : «إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة» [رواه مسلم].
ولقد عرفتُ – ممن عرفت – رجلاً دينًا خلوقًا كان يملك محلاً تجاريًا مرموقًا.. وقع أن جرّنا الحديث إلى الكلام عن دعوات السحر وأن الله جل وعلا يستجيبها ويتعاهدها بالقبول.. فما كان من ذلك الرجل الصالح إلا أن هش وبش بالفرح ثم قال لي:
والله لقد كنت قبل شهرين في غم وهم وكنت أتجول في الأسواق النائية البعيدة.. وربما منعني البعد من الرجوع إلى البيت فأنام على الأرض هربًا من تكاليف الفنادق.. ولم يكن لي من التجارة إلا بضعة أكياس زهيدة الثمن لا أربح من بيعها إلا ما يعولني أنا وعيالي لبضعة أيام..
وفي يوم خرجت قبل الفجر بنحو ساعة ونصف كعادتي في الخروج إلى السوق.. وتأخرت حافلة النقل.. فنظرت عن يمينى ثم عن شمالي فلم أر أحدًا.. ورأيت محلاً تجاريًا وسط الشارع.. فنظر إلى السماء ثم قلت مبتهلاً باكيًا: اللهم يسر لي في محل كهذا أقوت به عيالي.. وأتخلص من عذاب هذا السفر ومفارقتي للأسرة والأولاد..
ثم لبثت ما شاء الله أدعو – حتى أذن الفجر – فصليت وانطلقت إلى السوق.
وقال: ثم نسيت أمر دعائي.. حتى ذكرت ذلك وأنا أبيع في هذا المحل.. وهو المحل الذي كنت نظرت إليه في ذلك السحر.. ومن وقتها عظم شأن السحر عندي فلا أترك فيه الدعاء أبدًا.
أتهزأ بالدعاء وتزدريه
ولا تدري ما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطى ولكن
لها أمد وللأمد انقضاء
وعن عمرو بن عبسة أنه سمع رسول الله يقول: «أقرب ما يكون العبد من ربه في سجوده، وإذا قام يصلي في ثلث الليل الأخير، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن»( ).
3- غفران الذنوب:
وقد تقدم في الحديث أن الله جل وعلا ينزل في الثلث الأخير من الليل إلى سماء الدنيا فيقول: «من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» [رواه البخاري ومسلم].
ويد الله سبحانه وتعالى مبسوطة للمستغفرين بالليل والنهار.. ولكن استغفار الليل يفضل استغفار النهار بفضيلة الوقت وبركة السحر. ولذلك مدح الله جل وعلا المستغفرين بالليل فقال: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [آل عمران: 17].
وذلك لأن الاستغفار بالسحر.. فيه من المشقة ما يكون سببًا لتعظيم الله له.. وفيه من عنت ترك الفراش ولذاذة النوم والنعاس.. ما يجعله أولى بالاستجابة والقبول.. لاسيما مع مناسبة نزول المولى جل وعلا إلى سماء الدنيا وقربه من المستغفرين.. فلا شك أن لهذا النزول بركة تفيض على دعوات السائلين وتوبة المستغفرين وابتهالات المبتهلين!!
فعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري عن النبي قال: «إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» [رواه مسلم].
قطع الليل رجال
ورجال وصلوه
رقدوا فيه أناس
وأناس شهدوه
لا يميلون إلى النو
م ولا يستعذبوه
فكأن النوم شيء
لم يكونوا يعرفوه
وقد امتدح الله جل وعلا عباده الصالحين فقال: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
[الذاريات: 17، 18].
قال الحسن: كابدوا الليل ومدوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا في الدعاء والاستكانة والاستغفار.
المؤلف أبو الحسن بن محمد الفقيه
الناشر دار ابن خزيمة
http://www.ktibat.com/showsubject-link-653.htm
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد:
فإن الليل مدرسة الزاهدين.. وخلوة العابدين.. وشرف الصالحين.. وسلوان المؤمنين.. يجددون فيه الإيمان.. ويحيون فيه الجنان.. ويقمعون به الشيطان..
فساعاته مباركة.. ولحظاته طيبة.. ونسماته تتدفق بالرحمة والسكينة واللذة والطمأنينة.
فهو دأب الصالحين.. ووقت تضرع المحتاجين.. واستغفار التائبين.. وقضاء حوائج الراغبين.
يحيون ليلهم بطاعة ربهم
بتلاوة وتضرع وسؤال
وعيونهم تجري بفيض دموعهم
مثل انهمال الوابل الهطال
في الليل رهبان وعند جهادهم
لعدوهم من أشجع الأبطال
فطوبى لمن أحياه بالقيام.. وآثره على المنام.. فحاز به شرف الدنيا وحسن الختام!
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» [رواه مسلم].
وعن جابر قال: سئل رسول الله : أي الصلاة أفضل؟ قال: «طول القنوت» [رواه مسلم].
فتعال – أخي – نطلع على فوائد القيام وفضائله.. ونتنسم من عبير السلف نسمات تحيي في النفوس همة التبتل والعبادة.. والطاعة والزهادة..
فضائل قيام الليل
لحظات السحر.. لحظات خير وفضيلة.. ومغفرة ووسيلة.. وعبادة جليلة.
ففيها تتنزل البركات.. وتتغشى العابدين الرحمات.. وتستجاب السؤالات.. ويتجاوز فيه الله سبحانه عن الزلات والخطيئات.
بل وينزل سبحانه إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلال وجهه وعظيم ذاته، إكرامًا للسائلين.. وإيقاظًا لهمم العارفين.. وتسلية لعباده المؤمنين.
فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» [رواه البخاري ومسلم].
فيا لها من لحظات ساكنة.. ويا له من جود عريض.. وكرم سخي.. وإحسان وفيّ!
فأين من يستثمر تلك اللحظات في دعوة صادقة، وتوبة ناصحة ، يصلح الله له بها أمر دينه؛ فلا ينثلم، وأمر رزقه فلا ينعدم، وأمر مآله فلا يخيب أبدًا.
فيا أيها الإنسان ما أجهلك.. وما أعجلك تؤثر نوم ساعة على نيل راحة خالدة..!
ويا أيها الإنسان ما أظلمك... تعصي ويعرض عليك الغفران فتأبى!
وسبحانك ربي ما أرحمك وأحلمك.. تبسط يدك بالليل ليتوب مسيء النهار وتبسط يدك بالنهار ليتوب مسيء الليل!
يا نائم الليل كم ترقد
قم يا صديقي قد دنا الموعد
وخذ من الليل وأوقاته
وردًا إذا ما هجع الرقد
من نام حتى ينقضي ليله
متى يبلغ المنزل أو يسعد
ومن أجلّ فوائد القيام:
1- خلوة السحر:
فخلوة السحر سكينة النفوس.. وطمأنينة القلوب.. تنساب فيها دموع المخلصين على خدودهم تترى.. قبل دخولهم على الله بالصلاة.. ويحصل بها هدوء الطبع.. وسمت الخلُق.. وسكون الأعضاء منسجمة في سكونها مع سبات الليل الهاديء.. وصماته الهامد..!
وإن المستيقظ من فراش المنام.. إلى رحاب القيام.. ليستيقظ يقظة ليس من نومه فقط وإنما من غفلة طالما حجبت قلبه عن الله.. وحرمته من لذة لقاه.. فهو بقومته الليلة يجلو ظلمات نهارية تخللته في يومه.. ولازمته في يقظته ونومه.. فاستيقظ يغسل قلبه.. ويذهب ذنبه.. ويستغفر ربه.. ليحيى حياة من جديد وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود: 114].
وهذه الخلوة هي – والله – مدرسة الإخلاص.. فيها ينشأ وينمو.. وفيها يكبر ويزهو.. وبها يحفظ ويربو.. لأنها عبادة غائبة عن أعين الناس.. وعن مديح الناس.. فلا يقدم عليها إلا مخلص يبتغي بها وجه الله والدار الآخرة.
ولذا فإن لها حلاوة أيما حلاوة! ولذاذة أيما لذاذة!
فالخالي في الأسحار.. بالتبتل والأذكار.. والدعوات والاستغفار.. لا يشعر بغربة في نفسه ولا بوحدة في حسه.. بل هو في أنس الله يرتعي.. وفي اجتماعه به ينعم.. وبقربه يتسلى.. وبحبه يتلذذ.. وبمعيته يسعد.. وبالخضوع الصادق يتعبد.
اطلبوا لأنفسكم
مثل ما وجدت أنا
قد وجدت لي سكنا
ليس في هواه عنا
إن بعدت قربني
وإن قربت منه دنا
ومن عظيم حب المخلص في القيام للقيام؛ أنه يشتاق لليل إذا حل النهار.. ويظل ينتظر من النهار أفوله.. ومن الليل حلوله.. لما يجده في تلك الخلوات من متعة العبادة ونشوة وسعادة.. بل إنه يستثقل في نفسه كثرة المخالطة بالناس.. ولا يحصل له الأنس ولا السكينة إلا في خلوة السحر السكينة!
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي
متأخر عنكم ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة
حبًا لذكرك فليلمني اللوَّم
ولا تزال تلك الخلوة تؤتي أكلها حتى تدفع المؤمن إلى العزوف عن الدنيا وأوحالها.. وترك الاشتغال بأزبالها..
فإنما هي جيفة مستحيلة
عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلمًا لأهلها
وإن تجتذبها نافستك كلابها
ولا تزال تلك الخلوة بالمؤمن حتى تهذب لسانه وتقوم مقاله وتزين فعاله.. وتطهر نفسه وترقق حسه.. فإذا به حيي كريم رفيق رحيم.
ولا تزال به حتى تكسوه نضارة الوجه.. وحلاوة البشر.. ومهابة القدوم.. ورفعة الشأن، فإذا به يخطو نحو الكمال.
فأين ساعة غطيط وشخير.. من هذه الفوائد الذهبية.. في خلوة السحر!!
ومن فوائدها أيضًا:
1- أنها ساعة مباركة.. يُكثر الله فيها القليل.. ويُربي فيها الضئيل.. ويجزي على العبادة فيها خيرًا كثيرًا.
2- أنها تمرس العبد على الصدق مع الله.. وعلى عدم التزين للمخلوق، وتشغله بخاصة نفسه.. ومطالعة عيبه والاستغفار لذنبه..
3- أنها تعلمه الزهد في الدنيا وتميت الطمع والحرص عليها في قلبه، وتجعله مقبلاً على الله مدبرًا عن الدنيا.
4- أنها تورثه رقة القلب.. ورفق الطبع.. والتواضع والخلق..
5- أنها ترغبه في العزلة المحمودة، والأنس بالله على كل حال، فإن حلاوة أنسه بالله في خلوة الليل تدفعه إلى طلبها في النهار فيستثقل الاجتماع بالناس في غير ذكر الله تعالى.
ليس للناس موضع في فؤادي
زاد فيه هواك حتى ملاهُ
2- استجابة الدعوات:
وقيام الليل هو مفتاح استجابة الدعاء.. وقضاء الحوائج.. ونزول العطاء.. قال : «إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة» [رواه مسلم].
ولقد عرفتُ – ممن عرفت – رجلاً دينًا خلوقًا كان يملك محلاً تجاريًا مرموقًا.. وقع أن جرّنا الحديث إلى الكلام عن دعوات السحر وأن الله جل وعلا يستجيبها ويتعاهدها بالقبول.. فما كان من ذلك الرجل الصالح إلا أن هش وبش بالفرح ثم قال لي:
والله لقد كنت قبل شهرين في غم وهم وكنت أتجول في الأسواق النائية البعيدة.. وربما منعني البعد من الرجوع إلى البيت فأنام على الأرض هربًا من تكاليف الفنادق.. ولم يكن لي من التجارة إلا بضعة أكياس زهيدة الثمن لا أربح من بيعها إلا ما يعولني أنا وعيالي لبضعة أيام..
وفي يوم خرجت قبل الفجر بنحو ساعة ونصف كعادتي في الخروج إلى السوق.. وتأخرت حافلة النقل.. فنظرت عن يمينى ثم عن شمالي فلم أر أحدًا.. ورأيت محلاً تجاريًا وسط الشارع.. فنظر إلى السماء ثم قلت مبتهلاً باكيًا: اللهم يسر لي في محل كهذا أقوت به عيالي.. وأتخلص من عذاب هذا السفر ومفارقتي للأسرة والأولاد..
ثم لبثت ما شاء الله أدعو – حتى أذن الفجر – فصليت وانطلقت إلى السوق.
وقال: ثم نسيت أمر دعائي.. حتى ذكرت ذلك وأنا أبيع في هذا المحل.. وهو المحل الذي كنت نظرت إليه في ذلك السحر.. ومن وقتها عظم شأن السحر عندي فلا أترك فيه الدعاء أبدًا.
أتهزأ بالدعاء وتزدريه
ولا تدري ما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطى ولكن
لها أمد وللأمد انقضاء
وعن عمرو بن عبسة أنه سمع رسول الله يقول: «أقرب ما يكون العبد من ربه في سجوده، وإذا قام يصلي في ثلث الليل الأخير، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن»( ).
3- غفران الذنوب:
وقد تقدم في الحديث أن الله جل وعلا ينزل في الثلث الأخير من الليل إلى سماء الدنيا فيقول: «من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» [رواه البخاري ومسلم].
ويد الله سبحانه وتعالى مبسوطة للمستغفرين بالليل والنهار.. ولكن استغفار الليل يفضل استغفار النهار بفضيلة الوقت وبركة السحر. ولذلك مدح الله جل وعلا المستغفرين بالليل فقال: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [آل عمران: 17].
وذلك لأن الاستغفار بالسحر.. فيه من المشقة ما يكون سببًا لتعظيم الله له.. وفيه من عنت ترك الفراش ولذاذة النوم والنعاس.. ما يجعله أولى بالاستجابة والقبول.. لاسيما مع مناسبة نزول المولى جل وعلا إلى سماء الدنيا وقربه من المستغفرين.. فلا شك أن لهذا النزول بركة تفيض على دعوات السائلين وتوبة المستغفرين وابتهالات المبتهلين!!
فعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري عن النبي قال: «إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» [رواه مسلم].
قطع الليل رجال
ورجال وصلوه
رقدوا فيه أناس
وأناس شهدوه
لا يميلون إلى النو
م ولا يستعذبوه
فكأن النوم شيء
لم يكونوا يعرفوه
وقد امتدح الله جل وعلا عباده الصالحين فقال: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
[الذاريات: 17، 18].
قال الحسن: كابدوا الليل ومدوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا في الدعاء والاستكانة والاستغفار.