الفتن وموقف المسلم منها(ورؤية شرعية تأصلية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فإن الأمور الغيبية التي أخبر الشارع الحكيم بحدوثها في واقع الحياة يجب على المسلم فيها أن يستمسك بمعتصم يقيه مزلة الأقدام ومضلة الأفهام، والمعتصم في ذلك للمسلم هو أن يكون وقافا - من غير إفراط ولا تفريط - عند حدوث النص الشرعي الوارد بالأخبار بحدوث ذلك الأمر الغيبي، إذ لا مدخل للعقل في تصوير هذا الأمر وتكييفه.
ومن الأمور الغيبية التي أخبر الشارع الحكيم بحدوثها في واقع الحياة (الفتن) التي ستحيق بالأمة المسلمة في آخر زمانها، وهي فتن كثيرة ومتعددة يرقق بعضها بعضا، كما وردت صحاح الأحاديث بذلك.
وبما أن الفتن أمور غيبية، فإن الحديث عنها حديث عن موضوع شائك وخطير، أما كونه شائكا فلأنه متعدد الجوانب، متشعب الاتجاهات، لا يمكن لأي باحث أن يلم شعثه، وأن يقضي منه تفثه في صفحات محدودة كصفحات هذا البحث.
وأما كونه خطيراً فالخطورة فيه تكمن في قضية تكييف تلك الأخبار النبوية على واقع الحال لكل فتنة تعصف بعالم الأمة الإسلامية؛ لأن ذلك التكييف قد يكون سببا في طيش الأقلام وتجنيح الخيال، مما يوجب الحذر غاية الحذر في طرح هذا الموضوع والتعامل معه.
وحيث كثر التخوض في إسقاط أحاديث الفتن على ما يجري في الساحة الإسلامية من وقائع وحوادث، الأمر الذي قد يفضي إلى شطحات عن المنهج الأقوم في هذا الشأن، فقد رأيت أن من الواجب الشرعي التصدي لبيان الموقف الحق الذي يحتم على المسلم أن يلزم نفسه به وفق ضوابط شرعية ومعايير مرعية، هي المنار لترشيد المسار في قضية ربط الفتن الواقعية بالنصوص الشرعية، وذلك من خلال هذا البحث المتواضع الذي أسميته: (الفتن وموقف المسلم منها: رؤية شرعية تأصيلية).
وبما أني لا أستطيع التوغل في مسالك هذا الموضوع الوعرة التي لا يملك القدرة على تمهيد صعابها إلا الراسخون في العلم بنور من الله تبارك وتعالى وبصيرة، فإني أحاول ـ قدر جهدي ـ اختزاله في مباحث رئيسة يغلب على ظني أنها ستميط اللثام عن الخطوط العريضة لهذا الموضوع المترامي الأطراف، وتلك المباحث سينتظم عقدها في ستة عشرة مبحثا هي كالآتي:
1- المبحث الأول: (الفتنة في لغة العرب).
2- المبحث الثاني: (الفتنة في القرآن الكريم).
3- المبحث الثالث: (الفتنة في السنة المطهرة).
4- المبحث الرابع: (العلاقة بين الفتنة في اللغة والفتنة في الكتاب والسنة).
5- المبحث الخامس: (الفتنة في العرف الشرعي).
6- المبحث السادس: (أقسام الفتنة باعتبار زمن حدوثها).
7- المبحث السابع: (الحكمة الشرعية من الإخبار بحدوث الفتن).
8- المبحث الثامن: (مصدر الفتن التي تقع على الأمة).
9- المبحث التاسع: (أسباب حدوث الفتن).
10- المبحث العاشر: (موقف المسلم من الفتن حين حدوثها).
11- المبحث الحادي عشر: (موقف المسلم من إسقاط أحاديث الفتن على أحداث آخر الزمان).
12- المبحث الثاني عشر: (فتنة العولمة على عقيدة المسلم).
13- المبحث الثالث عشر: (موقف المسلم من إثبات الوقائع بالرؤى المنامية زمن الفتن).
14- المبحث الرابع عشر: (متى يجب على المسلم اعتزال الناس في الفتنة؟).
15- المبحث الخامس عشر: (أسباب الوقاية من الفتن).
16- المبحث السادس عشر: (كيف تتم الوقاية من الفتن وهي واقعة لا محالة؟).
والله تعالى أسأل أن يمدني بعونه وتوفيقه وتسديده، لإخراج هذا البحث على الوجه الذي يرضيه، وأن يجعله علما نافعا وعملا صالحا مقبولا لديه، وأن يقيني زلة القدم وعثرة القلم فيه، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه، وهو حسبي ونعم الوكيل.
أ.د. علي بن سعد الضويحي
المبحث الأول
الفتنة في لغة العرب
لابد ـ قبل الحديث عن جوانب هذا الموضوع المهم ـ من التطرق إلى تعريف "الفتن"؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
فالفتن جمع "فتنة"، والفتنة في اللسان العربي تطلق ويراد بها عدد من المعاني، ومنها ما يأتي:
1- الابتلاء، تقول: (فتنت فلانا): إذا ابتليت صدقه وأمانته.
2- الإحراق بالنار، تقول: (فتنت الذهب والفضة): إذا أحرقتهما بالنار لتميز الرديء من الجيد.
3- اختلاف الناس بالآراء: فإن هذا الاختلاف قد يكون سببا في الفتنة، ولاسيما إذا كان منشأ ذلك الاختلاف التشهي والهوى، وليس البحث عن الحق والهدى.
4- الإعجاب بالشيء، تقول: "فتنت بورعه"، أي: أعجبت بما كان عليه من ورع.
5- الفضيحة، ومن ذلك قول الحق تبارك وتعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ [المائدة: 41]، أي: فضيحته.
6- الإزالة، يقال: "فتن الرجل": إذا أزاله عما كان عليه.
7- الجنون، يقال: "رجل مفتون"، أي: مجنون.
8- العذاب، ومنه قول الحق تبارك وتعالى في شأن المشركين: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ [الذاريات: 14]، أي: عذابكم.
9- القتل، ومن ذلك قول الحق تبارك وتعالى: فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [يونس: 83]، أي: أن يقتلهم.
10- الضلال والإثم( )، وذلك أن الإنسان إذا امتلأ قلبه بالشبهة والشهوة ـ والعياذ بالله تعالى ـ فتن بهما حتى يضل فيقع في الإثم العظيم من حيث يشعر أو لا يشعر.
هذه هي بعض المعاني التي فسر بها العرب "الفتنة" في لسانهم، إلا أن المعنى الأول وهو (الابتلاء) هو جماع تلك المعاني كلها، كما صرح بذلك الأزهري( ) وابن منظور( ) رحمهما الله تعالى، وكما صرح به غيرهما.
وذلك لأن كل المعاني المذكورة يمكن إدراجها في هذا المعنى الجامع، فالإحراق بالنار للذهب والفضة هو ابتلاء لجيدهما من رديئهما.
واختلاف الناس بالآراء هو ابتلاء لهم، ليعلم متبع الحق من متبع الباطل.
والإعجاب بالشيء ابتلاء لما في دخيلة الإنسان من حب الخير أو حب الشر؛ لأن كل إناء بما فيه ينضح.
والفضيحة ابتلاء من الله تبارك وتعالى للمفضوح، حتى تنكشف حقيقته للناس فلا يغتر به.
والإزالة ابتلاء من الله جل شأنه للعبد بميل قلبه من الهداية إلى الغواية، نسأل الله تعالى السلامة من ذلك.
والجنون ابتلاء للعبد بسلب العقل منه.
والعذاب ابتلاء لمن استحقه بسبب إعراضه وطغيانه.
والقتل ابتلاء للقاتل حين يبوء بإثم من قتله وتعدى على حرمة دمه.
والضلال والإثم ابتلاء لمن أوقع نفسه في أسبابهما حتى يجني ما اكتسبته يداه.
المبحث الثاني
الفتنة في القرآن الكريم
وردت "الفتنة" في ستة وخمسين موضعا من القرآن العظيم، وهي بحسب تسلسل الآيات في السور القرآنية الكريمة على النحو الآتي:
1- الموضع الأول: قول الله تبارك وتعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ [البقرة: 102].
ومعنى الفتنة هنا: هو "البلاء"، أي: "إنما نحن بلاء لبني آدم، فلا تكفر بربك"( ).
2- الموضع الثاني: قول الحق سبحانه: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 191].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الكفر والشرك"، أي: "شركهم بالله تعالى وكفرهم به أعظم جرما، وأشد من القتل الذي عيروكم به"( ).
3- الموضع الثالث: قول المولى جل شأنه: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة: 193].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الكفر"( ).
4- الموضع الرابع: قول الله تعالى: وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 217].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الكفر والشرك" كما سبق.
5- الموضع الخامس: قول الحق سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران: 7].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الإضلال"، أي: "الإضلال لأتباعهم، إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو حجة عليهم لا لهم"( ).
6- الموضع السادس: قول الله تعالى: كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا [النساء: 91].
ومعنى الفتنة هنا: "الشرك"، أي: "كلما دعوا إلى الإشراك بالله تعالى ارتدوا فصاروا مشركين"( ).
7- الموضع السابع: قول المولى سبحانه: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء: 101].
ومعنى الفتنة هنا: هو "القتل"، أو "الأسر" كما ذكر ذلك الإمام الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره( ).
8- الموضع الثامن: قول الله جل شأنه: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [المائدة: 41].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الضلالة". قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى: "ومعنى الفتنة في هذا الموضع: الضلالة عن قصد السبيل، يقول تعالى ذكره: ومن يرد الله يا محمد مرجعه بضلالته عن سبيل الهدى فلن تملك له من الله استنقاذا مما أراد الله به من الحيرة والضلالة، فلا تشعر نفسك بالحزن على ما فاتك من اهتدائه للحق"( ).
9- الموضع التاسع: قول الله عز وجل: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة: 49].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الصد"، أي: "واحذر يا محمد هؤلاء اليهود الذين جاءوك محتكمين إليك أن يفتنوك، فيصدوك عن بعض ما أنزل إليك من حكم كتابه، فيحملوك على ترك العمل به واتباع أهوائهم"( ).
10- الموضع العاشر: قول الحق سبحانه: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا [المائدة: 71].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء والاختبار"، أي: "وظن هؤلاء الإسرائيليون... ألا يكون من الله لهم ابتلاء واختبار بالشدائد من العقوبات بما كانوا يفعلون فعموا وصموا"( ).
11- الموضع الحادي عشر: قول الله جل شأنه: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الاختبار". قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى: "يقول تعالى ذكره: ثم لم يكن قولهم إذ قلنا لهم: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 22] إجابة منه لنا عن سؤالنا إياهم ذلك إذ فتناهم فاختبرناهم إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] كذبا منهم في أيمانهم على قولهم ذلك"( ).
12- الموضع الثاني عشر: قول الحق سبحانه: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا
[الأنعام: 53].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء والاختبار"، أي: "اختبرنا الناس بالغنى والفقر، والعز والذل، والقوة والضعف، والهدى والضلال، كي يقول من أضله الله وأعماه عن سبيل الحق للذين هداهم الله ووفقهم: أهؤلاء من الله عليهم بالهدى والرشد وهم فقراء ضعفاء أذلاء من بيننا ونحن أغنياء أقوياء، استهزاء بهم ومعاداة للإسلام وأهله"( ).
13- الموضع الثالث عشر: قول الله تعالى: يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ [الأعراف: 27].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الخداع والاختبار"، أي: "يا بني آدم لا يخدعنكم الشيطان فيبدي سوآتكم للناس بطاعتكم إياه عند اختباره لكم"( ).
14- الموضع الرابع عشر: قول المولى سبحانه: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ [الأعراف: 155].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء والاختبار". قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى: "ما هذه الفعلة التي فعلها قومي من عبادتهم، ما عبدوا دونك إلا فتنة منك أصابتهم، ويعني بالفتنة: الابتلاء والاختبار"( ).
15- الموضع الخامس عشر: قول الحق سبحانه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25].
ومعنى الفتنة هنا: هو "العذاب". قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "أمر الله المؤمنين إلا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب"( ).
16- الموضع السادس عشر: قول الله تبارك وتعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال: 28].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء والاختبار"، أي: "واعلموا أيها المؤمنون أنما أموالكم التي خولكموها الله، وأولادكم الذين وهبهم الله لكم اختبار وبلاء، لينظر كيف أنتم عاملون من أداء حق الله عليكم فيها"( ).
17- الموضع السابع عشر: قول الله جل شأنه: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال: 39].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الكفر"، كما سبق بيان ذلك.
18- الموضع الثامن عشر: قول الحق سبحانه: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال: 73].
ومعنى الفتنة هنا: هو "البلاء"، أي: "إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التعاون والنصرة على الدين تكن فتنة في الأرض"( )، حيث يحل البلاء بكم.
19- الموضع التاسع عشر: قول الله تعالى: وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التوبة: 47].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الكفر"( ).
20- الموضع العشرون: قول الله عز وجل: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ [التوبة: 48].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الصد عن الدين"، أي: "لقد التمس هؤلاء المنافقون الفتنة لأصحابك يا محمد، التمسوا صدهم عن دينهم، وحرصوا على ردهم إلى الكفر بالتخذيل عنه"( ).
21- الموضع الحادي والعشرون: قول الحق سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة: 49].
ومعنى الفتنة في قوله تعالى: وَلَا تَفْتِنِّي: هو "الابتلاء"، أي: "ولا تبتلني برؤية نساء بني الأصفر، فإني بالنساء مغرم"، والقائل ذلك هو "الجد بن قيس"( ).
ومعنى الفتنة في قوله تعالى: أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا: هو "الحرج والإثم"( ).
22- الموضع الثاني والعشرون: قول الله تبارك وتعالى: أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة: 126].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء والاختبار"، أي: "ثم هم مع البلاء الذي يحل بهم من الله، والاختبار الذي يعرض لهم لا ينيبون من نفاقهم، ولا يتوبون من كفرهم، ولا هم يتذكرون بما يرون من حجج الله، ويعاينون من آياته فيتعظوا بها، ولكنهم مصرون على نفاقهم"( ).
23- الموضع الثالث والعشرون: قول المولى تبارك اسمه: فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [يونس: 83].
ومعنى الفتنة هنا: هو "القتل" أو "العذاب"( ).
24- الموضع الرابع والعشرون: قول الحق سبحانه: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يونس: 85].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء والاختبار"، أي: "يا ربنا لا تختبر هؤلاء القوم الكافرين، ولا تمنحنهم بنا"( ).
25- الموضع الخامس والعشرون: قول الله عز وجل: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا [النحل: 110].
ومعنى الفتنة هنا: "التعذيب"، وذلك لإكراههم على التلفظ بكلمة الكفر( ).
26- الموضع السادس والعشرون: قول الله جل شأنه: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: 60].
ومعنى الفتنة هنا: "الابتلاء والاختبار"، وتلك الرؤيا هي رؤيا عين أريها رسول الله ليلة أسري به، فكانت بلاء للناس بين مصدق ومكذب( ).
27- الموضع السابع والعشرون: قول الله سبحانه: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء: 73].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الصد"، أي: "أن المشركين كادوا أن يفتنوا النبي عليه الصلاة والسلام بصده عما أوحاه الله تعالى إليه ليعمل بغيره"( ).
28- الموضع الثامن والعشرون: قول الله تبارك وتعالى: وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا [طه: 40].
ومعنى الفتنة والفتون هنا: هو "الابتلاء والاختبار"، كما قال ذلك حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما"( ).
29- الموضع التاسع والعشرون: قول الله جل جلاله: قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ [طه: 85].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الاختبار والامتحان"، أي: "اختبرناهم وامتحناهم بأن يستدلوا على الله عز وجل"( ).
30- الموضع الثلاثون: قول الله تعالى: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ [طه: 90].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء" أي: إن هارون عليه السلام قال لبني إسرائيل من قبل أن يرجع إليهم موسى عليه السلام: يا قوم إنما ابتليتم بعبادة العجل، وأُضللتم بذلك الابتلاء عن عبادة الله تبارك وتعالى"( ).
31- الموضع الحادي والثلاثون: قول الحق سبحانه: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طه: 131].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء".
وفي هذه الآية الكريمة يخاطب الله تبارك وتعالى نبيه محمدا بألا يجعل لزهرة الدنيا وزنا، فإنه لا بقاء لها( ).
32- الموضع الثاني والثلاثون: قول الله جل شأنه: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الاختبار"، أي: نختبركم بالشدة والرخاء، والحلال والحرام، فننظر كيف شكركم وصبركم"( ).
33- الموضع الثالث والثلاثون: قول الله تعالى: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [الأنبياء: 111].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الاختبار"، أي: "لعل الإمهال اختبار لكم ليرى كيف صنيعكم"( ).
34- الموضع الرابع والثلاثون: قول المولى عز وجل: وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ
[الحج: 11].
ومعنى الفتنة هنا: هو "البلاء".
والآية الكريمة تحكي حال المنافق، فهو إن صلحت له دنياه أقام على دينه، وإن فسدت عليه دنياه ترك الدين ورجع إلى الكفر( ).
35- الموضع الخامس والثلاثون: قول الحق سبحانه: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الحج: 53].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الضلالة"( ).
36- الموضع السادس والثلاثون: قول الله عز وجل: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور: 63].
ومعنى الفتنة هنا: هو فتنة القلب من كفر، أو نفاق، أو بدعة( ).
37- الموضع السابع والثلاثون: قول الله جل شأنه: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً [الفرقان: 20].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الامتحان"، أي: "وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض"( ).
38- الموضع الثامن والثلاثون: قول الله سبحانه: قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [النمل: 47].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء". قال قتادة رحمه الله تعالى: "تبتلون بالطاعة والمعصية"( ).
39- الموضع التاسع والثلاثون: قول الحق جل شأنه: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 1 - 3].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء"، أي: "إن الله تعالى لابد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عنده من الإيمان"( ).
40- الموضع الأربعون: قول المولى سبحانه: فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت: 10].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الأذى"، أي: "يجعل إيذاء الناس له في الدنيا كعذاب الله تعالى في الآخرة، حتى يرتد عن إيمانه"( ).
41- الموضع الحادي والأربعون: قول الله تبارك وتعالى: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا
[الأحزاب: 14].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الكفر"، أي: "إنهم لو دخل عليهم الأعداء من كل جانب من جوانب المدينة، وقطر من أقطارها، ثم سئلوا الفتنة وهي الدخول في الكفر لكفروا سريعا، وهم لا يحافظون على الإيمان، ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع"( ).
42- الموضع الثاني والأربعون: قول الله عز سلطانه: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ [الصافات: 62 - 63].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الاختبار"، أي: "إنما أخبرناك يا محمد بشجرة الزقوم اختبارا نختبر به الناس من يصدق منهم ممن يكذب"( ).
43- الموضع الثالث والأربعون: قول الله تعالى: فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ [الصافات: 161 - 162].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الإضلال"، أي: "ما أنتم بمضلين أحدا إلا من قدر الله عز وجل عليه أن يضل"( ).
44- الموضع الرابع والأربعون: قول الله سبحانه: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص: 24].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الاختبار"، كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما( ).
45- الموضع الخامس والأربعون: قول الحق سبحانه: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص: 34].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء"، وسبب ابتلاء نبي الله سليمان عليه السلام أنه قال: "لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن يأتين بفارس يجاهد في سبيل الله"، ولم يقل: "إن شاء الله"، فلم تحمل منهن إلا امرأة جاءت بشق رجل، وهذا الشق هو الجسد الذي القي على كرسيه حين عرض عليه( ).
46- الموضع السادس والأربعون: قول الله جل شأنه: فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 49].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء والاختبار"، أي: "بل عطيتنا إياهم تلك النعمة من بعد الضر الذي كانوا فيه فتنة لهم، يعني: بلاء ابتليناهم به، واختبارا اختبرناهم به"( ).
47- الموضع السابع والأربعون: قول الله عز وجل: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ [الدخان: 17].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الاختبار"، أي: "ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون، وهم قبط مصر"( ).
48- الموضع الثامن والأربعون: قول الحق سبحانه: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [الذاريات: 13 - 14].
ومعنى الفتنة هنا: هو "التعذيب والتحريق"، كما قال ذلك ابن عباس، ومجاهد، والحسن وعكرمة، وإبراهيم النخعي، وزيد بن أسلم، سفيان الثوري( ).
49- الموضع التاسع والأربعون: قول الله تبارك وتعالى: إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ [القمر: 27].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الاختبار"، حيث "أخرج الله تعالى لقوم صالح عليه السلام ناقة عظيمة عشراء من صخرة صماء طبق ما سألوا، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح عليه السلام فيما جاءهم به"( ).
50- الموضع الخمسون: قول الله جل شأنه: وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ [الحديد: 14].
ومعنى الفتنة هنا: هو "النفاق"، أي: "إنهم فتنوا أنفسهم بنفاقهم، فاستحقوا العقاب على ذلك بإطفاء النور عنهم"( ).
51- الموضع الواحد والخمسون: قول الله عز سلطانه: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة: 5].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء والاختبار" كما سبق.
52- الموضع الثاني والخمسون: قول الله سبحانه: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن: 15].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء والاختبار" كما سبق.
53- الموضع الثالث والخمسون: قول الله تعالى: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ [القلم: 5 - 6].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الضلال"، أي: "فستعلم يا محمد وسيعلم مخالفوك ومكذبوك من المفتون الضال منك ومنهم"( ).
54- الموضع الرابع والخمسون: قول المولى عز وجل: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الجن: 16 - 17].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء والاختبار"، أي: "لنبتليهم من على الهداية ممن يرتد إلى الغواية"( ).
55- الموضع الخامس والخمسون: قول الله سبحانه: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [المدثر: 31].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الاختبار"، أي: "إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعة عشر اختبارا منا للناس"( ).
56- الموضع السادس والخمسون: قول المولى جل شأنه: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج: 10].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الإحراق"، أي "حرقوا المؤمنين والمؤمنات" كما في قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وغيرهم( ).
وبهذا الحصر يعلم أن الفتنة قد كثير ورودها في كتاب الله تبارك وتعالى، وما ذلك إلى لخطورة شأنها، وشدة تأثيرا على الأفراد والجماعات، نسأل الله سبحانه السلامة من نزغات الهوى ومضلات الفتن.
المبحث الثالث
الفتنة في السنة المطهرة
تضافرت الأحاديث الكثيرة في سنة النبي الريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وتظاهرت على حدوث الفتن في واقع الأمة المسلمة في آخر الزمان.
ومن تلك الأحاديث ما ثبت في الصحيحين من حديث الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي قال: «ستكون فتن القاعدة فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد فيها ملجأ أو معاذا فليعذ به»( ).
وما ثبت في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى من حديث الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي قال: «يتقارب الزمان، وينقص العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج». قيل: يا رسول الله وما الهرج؟ قال: «القتل»( ).
وما ثبت في صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى من حديث الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي : «والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل، ولا يدري المقتول على أي شيء قتل»( ).
وما ثبت في سنن ابن ماجه رحمه الله تعالى من حديث الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قام رسول الله فخطبنا، فقال «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيرا لهم، وينذرهم ما يعلمه شرا له، وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها، وإن آخرهم يصيبهم بلاء وأمور تنكرونها، ثم تجيء فتن يرقق بعضها بعضا، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، ثم تجيء فتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف»( ).
بل إن تلك الفتن ستشتد آخر الزمان شدة عظيمة تخرج عن نطاق التحمل، لدرجة أن المسلم يذهب إلى المقبرة ويتمنى أن لو كان أحد أمواتها قبل حدوث هذه الفتن، ففي المتفق عليه من حديث الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي قال: «لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه»( ).
فهذه الفتن ـ نسأل الله تعالى السلامة من مضلاتها ـ قد كسر بابها فلن يغلق أبدا، لما ثبت في الصحيحين أن الخليفة الراشد المحدث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سأل خبير أحاديث الفتن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه عن الفتن التي تموج كموج البحر؟، فقال: "ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابا مغلقا" قال عمر: "أيكسر الباب أم يفتح؟"، قال: "بل يكسر"، قال عمر: إذا لا يغلق أبدا"( ).
وإذا فتح باب الفتن بلا إغلاق، فإن هذه الفتن لا تزال تباعا تخيم على الأمة بظلماتها، حتى يأذن الله تبارك وتعالى بقيام الساعة، كما ثبت ذلك في حديث الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أن النبي قال: «إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم»( ).
ومن هذا الاستعراض الموجز يتبين بجلاء أن دواوين السنة المطهرة المنقولة أحاديثها عمن لا ينطق عن الهوى رسول الرحمة والهدى عليه الصلاة والسلام، قد حفلت بالأخبار الكثيرة والمستفيضة عن حدوث تلك الفتن في واقع الأمة ولا محالة، فنسأل الله تعالى العون والتسديد والتثبيت.
المبحث الرابع
العلاقة بين الفتنة في اللغة
والفتنة في الكتاب والسنة
العلاقة بين معنى "الفتنة" في اللغة العربية، ومعنى الفتنة في الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة علاقة وثيقة جدا، فإن القرآن الكريم في جميع مواضع ورود لفظ "الفتنة" فيه أطلق ذلك اللفظ على معان متعددة، وتلك المعاني هي: الابتلاء، الاختبار، النفاق، الإحراق، الإثم، الحرج، القتل، الأسر، الخداع، العذاب، الصد، الإضلال، الكفر، الشرك، والأذى.
وهذه المعاني القرآنية كلها يجمعها قاسم مشترك أعظم، وهو "الابتلاء"، وقد سبق أن هذا المعنى هو الجامع للمعاني اللغوية التي فسر بها العرب لفظ "الفتنة" في لسانهم.
وكذلك المتأمل في سنة النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم يجد أن لفظ "الفتنة" فيها يدور حول معنى واحد يرجع إليه كل أنواع الفتن، وهو "الابتلاء"، سواء كان هذا الابتلاء بالقتل، كما ثبت في حديث الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي قال: «لا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج،»، قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: «القتل القتل»( ).
أو كان ذلك الابتلاء بقلة العلم وفشو الجهل، كما ثبت في الصحيحين من حديث الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أن النبي قال: «إن بين يدي الساعة أياما يرفع فيها العلم وينزل فيها الجهل»( ).
أو كان ذلك الابتلاء بالصد عن الدين، كما ثبت في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى من حديث الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه أن النبي قال: «دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها»( ).
أو كان ذلك الابتلاء بجور السلطان، كما جاء في حديث الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي قال: «ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم»( ).
وبهذا تكون السنة المطهرة دليلا مؤكدا للمعنى اللغوي الجامع للفتنة وهو "الابتلاء"، كما سبق بيان ذلك في موضعه، مما يدل على أن معنى "الفتنة" في الكتاب والسنة هو بعينه معنى "الفتنة" في لغة العرب، ولا غرو في ذلك فإن القرآن الكريم نزل باللسان العربي المبين، والسنة المطهرة قد نطق بها أفصح من تكلم بالعربية عليه الصلاة والسلام.
المبحث الخامس
الفتنة في العرب الشرعي
علمنا فيما سبق أن "الفتنة" في اللسان العربي تطلق على معنى جامع، وهو "الابتلاء"، وهذا المعنى الجامع هو الذي أيدته نصوص الكتاب الكريم والسنة المطهرة من خلال الآيات والأحاديث التي تم استعراضها آنفا.
وأما "الفتنة" في العرف الشرعي، فهي لا تخرج بحال عن المعنى اللغوي الجامع، إذ يمكن تعريفها بأنها: ما يصيب المسلم من خير أو شر في دينه أو دنياه.
وبناء على هذا التعريف الشرعي، فإن "الفتنة" كما تكون بالشر تكون بالخير أيضا، بل ربما تكون الفتنة بالخير أشد من الفتنة بالشر، ويؤيد ذلك ما أخبرنا به الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه حين قال: "ابتلينا مع رسول الله بالضراء فصبرنا، ثم ابتلينا بعده بالسراء فلم نصبر"( ).
ومن هنا فإن الله تعالى جعل ما ينعم به على عباده من نعمة الأموال والأولاد والزوجات فتنة، كما دل على ذلك في قوله سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال: 28].
وكما دل على ذلك أيضا قوله جل شأنه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14].
ومما يدل على أن "الفتنة" في العرف الشرعي هي الإصابة بالشر والخير قول الحق تبارك وتعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35].
حيث جعل المولى سبحانه الابتلاء بالشر والخير هو الفتنة بعينها.
وعلى ذلك، فالتطابق بين التعريف اللغوي والتعريف الشرعي للفتنة ظاهر بين، فكلاهما يدور في فلك "الابتلاء والاختبار"( ).
المبحث السادس
أقسام الفتن باعتبار زمن حدوثها
تنقسم الفتن باعتبار زمن حدوثها إلى قسمين رئيسيي، وهما:
1- القسم الأول: (فتن عامة):
وهذه الفتن إنما اكتسبت صفة العموم لكونها تشمل جميع أزمن الناس، منذ الزمن الذي وجد فيه أبو البشر آدم عليه السلام، الذي ابتلاه الله تبارك وتعالى بالنهي عن الأكل من شجرة معينة في الجنة، ففتنه الشيطان بالأكل منها، وفي ذلك يقول المولى سبحانه: وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف: 19 - 22].
ويقول سبحانه: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه: 120 - 122].
وستستمر تلك الفتن في ذريته عليه السلام إلى أن يرث الله تبارك وتعالى الأرض ومن عليها.
وهذه الفتن العامة في زمانها تتنوع إلى عدة أنواع، ومن أهمها على الإطلاق ثمان، وهي كما يلي:
1- الفتنة الأولى: (فتنة الشيطان): فإن الشيطان بعد أن فتن نبي الله آدم عليه السلام، حتى تسبب في إهباطه من الجنة إلى الأرض، فقد قطع على نفسه العهود والمواثيق بإفتان البشر وإغوائهم إلى يوم القيامة، وهذا ما أخبرنا به الحق سبحانه عنه في قوله تعالى: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 62].
ويبين لنا الحق سبحانه عظم فتنة الشيطان لبني آدم، فيقول عز وجل في شأنه: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 16 - 17].
ومن هنا فقد حذرنا ربنا تبارك وتعالى من إفتان الشيطان لنا بقوله سبحانه: يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 27].
وأمرنا سبحانه بأن نتخذ هذا الشيطان عدوا، فقال جل شأنه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6].
والحكمة من الأمر باتخاذه عدوا هي الحذر من الإفتتان بهمزاته ونفثاته ونزغاته؛ لأن العاقل لا يثق بمن تبين عداوته له، وتحقق من حقده عليه.
وموقف المسلم من فتنة الشيطان هو اللجوء إلى الله تعالى بصدق ويقين، وهذا هو العلاج الرباني الذي أرشدنا إليه المولى سبحانه للنجاة من هذه الفتنة العظيمة في قوله عز سلطانه: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 36].
2- الفتنة الثانية: (حب العيش وكراهية الموت)، وهذه ـ بلا شك ـ فتنة عظيمة، تجعل المفتون بها متعلقا قلبه بحب الحياة وطول البقاء في الدنيا، ويكفي بتلك الفتنة شؤم عار على صاحبها أنه متأس في ذلك باليهود، ومقتد بالمنافقين، ومخالف لهدي الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام، ولما كان عليه أصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
أما التأسي باليهود، فلأن من أعظم صفاتهم الذميمة الحرص الشديد على الحياة، وهذا ما أخبر به العليم الخبير سبحانه عنهم في كتابه الكريم بقوله جل شأنه: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [البقرة: 96].
وأما الاقتداء بالمنافقين، فلأن من أعظم صفاتهم إيثار الحياة على الموت في سبيل الله تعالى، وليس أدل على ذلك من قوله سبحانه في شأنهم: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81].
وأما المخالفة لهدي النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولصحابته الغر الميامين رضي الله تعالى عنهم ورفع درجاتهم في عليين، فلأن ديدنهم المعهود عنهم طيلة حياتهم إنما هو تقديم الأرواح فداء لدينهم عقيدتهم، حتى رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه.
وإذا أراد المسلم الانتصار على تلك الفتنة، فليكن موقفه موقف التأسي برسول الله في هذه الصفة الإيمانية العظيمة، امتثالا لقول الحق سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21].
3- الفتنة الثالثة: (الهوى)، ويكفي في الفتنة به أنه سبب رئيس للضلال عن الهدى، كما قال سبحانه: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 43 - 44].
كما يكفي في الفتنة به أنه سبب رئيس للختم على السمع والقلب وجعل الغشاوة على البصر، ليكون هذا المفتون بعيدا عن أسباب الهداية، وفي ذلك يقول المولى سبحانه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23].
كما يكفي في الفتنة به أنه يخلد بصاحبه إلى الأرض، فيكون مكبلا في التراب والطين، بحيث لا يجد للرفعة سبيلا، وفي ذلك يقول الحق سبحانه: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف: 176].
وعلى المسلم الحق أن يقف بحزم ضد هوى نفسه، خوفا من الله تبارك وتعالى، ورجاء في جنته، وهذا ما وعد به سبحانه بقوله: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 40 - 41].
4- الفتنة الرابعة: (الدنيا)، فهي غرارة خداعة، تتزخرف للإنسان حتى ينشغل بلذتها الفانية عن سعادة الآخرة الباقية، ومن هنا فقد حذر الله تبارك وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام من مد عينيه إلى زهرة الدنيا، حيث قال له سبحانه: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طه: 131].
كما حذر سبحانه عموم عباده من الاغترار بها، حيث قال عز سلطانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [فاطر: 5].
وذلك أن من أشرب قلبه حب الدنيا آثرها على الآخرة، وهذا هو بريد البوار والهلاك، كما قال المولى سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس: 7 - 8].
والمسلم الحق هو الذي يقف من هذه الدنيا موقف منتهز الفرص، بحيث يجعلها مطية للدار الآخرة، بإعمارها بطاعة الله تعالى وعبادته، هي الفطنة والكياسة، كما قال الشاعر:
إن لله عبادا فطنا
ط
طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا
أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سفنا
5- الفتنة الخامسة: (المال)، وليس خافيا على أحد تعلق الناس بالمال، والسعي إلى تحصيله وتكديسه، بدافع حبهم له وحرصهم عليه، كما قال المنعم سبحانه مبينا هذه الحقيقة الغريزية للإنسان: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر: 20].
وقال سبحانه: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8].
ولا ضير على المسلم أن يسعى إلى جمع المال المكتسب بالطريق المشروع، إذا كان يعرف حق الله تبارك وتعالى فيه، ويحرص غاية الحرص على إيصال ذلك الحق إلى ذويه، فإن المال زينة الحياة كما قال المولى سبحانه: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
[الكهف: 46].
ولكن الضير كل الضير أن يفتتن المسلم بهذا المال، بحيث يجعل التحاكم إليه ولاء وبراء، فلا يحب إلا من أجله، ولا يبغض إلا في سبيله، فهذا دليل العبودية للمال التي تؤول بصاحبها إلى تعاسة الحال والمآل، كما ثبت في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى من حديث الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض»( ).
والمال الذي تصل فتنته بصاحبه إلى هذه المرتبة، يكون عذابا عليه في الدنيا قبل الآخرة، وهذا ما أخبر الله تبارك وتعالى به عن المنافقين، حين قال سبحانه في شأنهم مخاطبا نبيه محمدا : فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 55].
6- الفتنة السادسة: (الزوجة)، وذلك أن بعض الأزواج قد يدفعه تعلقه بزوجته، أو يدفعه ضعف شخصيته أما إرادتها، إلى التنازل عن الكثير من أمور الدين، فيتحول بسبب ذلك من الاستقامة على منهج الرحمن إلى المخالفة والعصيان، حتى لا يجرح شعور زوجته بفعل شيء ليست فيه براغبة، وهذه ـ بلا شك ـ فتنة عظيمة تقود إلى الفسق الذي حذر منه الحق سبحانه في قوله قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاك
( ) القطط: هو الشعر الجعد القصير. (لسان العرب، مادة "قطط" 7/380).
( ) أخرجه مسلم في كتاب "الفتن"، باب "ذكر الدجال". (صحيح مسلم بشرح النووي 18/63 – 65).
( ) أخرجه مسلم في كتاب "الفتن وأشراط الساعة"، باب[
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فإن الأمور الغيبية التي أخبر الشارع الحكيم بحدوثها في واقع الحياة يجب على المسلم فيها أن يستمسك بمعتصم يقيه مزلة الأقدام ومضلة الأفهام، والمعتصم في ذلك للمسلم هو أن يكون وقافا - من غير إفراط ولا تفريط - عند حدوث النص الشرعي الوارد بالأخبار بحدوث ذلك الأمر الغيبي، إذ لا مدخل للعقل في تصوير هذا الأمر وتكييفه.
ومن الأمور الغيبية التي أخبر الشارع الحكيم بحدوثها في واقع الحياة (الفتن) التي ستحيق بالأمة المسلمة في آخر زمانها، وهي فتن كثيرة ومتعددة يرقق بعضها بعضا، كما وردت صحاح الأحاديث بذلك.
وبما أن الفتن أمور غيبية، فإن الحديث عنها حديث عن موضوع شائك وخطير، أما كونه شائكا فلأنه متعدد الجوانب، متشعب الاتجاهات، لا يمكن لأي باحث أن يلم شعثه، وأن يقضي منه تفثه في صفحات محدودة كصفحات هذا البحث.
وأما كونه خطيراً فالخطورة فيه تكمن في قضية تكييف تلك الأخبار النبوية على واقع الحال لكل فتنة تعصف بعالم الأمة الإسلامية؛ لأن ذلك التكييف قد يكون سببا في طيش الأقلام وتجنيح الخيال، مما يوجب الحذر غاية الحذر في طرح هذا الموضوع والتعامل معه.
وحيث كثر التخوض في إسقاط أحاديث الفتن على ما يجري في الساحة الإسلامية من وقائع وحوادث، الأمر الذي قد يفضي إلى شطحات عن المنهج الأقوم في هذا الشأن، فقد رأيت أن من الواجب الشرعي التصدي لبيان الموقف الحق الذي يحتم على المسلم أن يلزم نفسه به وفق ضوابط شرعية ومعايير مرعية، هي المنار لترشيد المسار في قضية ربط الفتن الواقعية بالنصوص الشرعية، وذلك من خلال هذا البحث المتواضع الذي أسميته: (الفتن وموقف المسلم منها: رؤية شرعية تأصيلية).
وبما أني لا أستطيع التوغل في مسالك هذا الموضوع الوعرة التي لا يملك القدرة على تمهيد صعابها إلا الراسخون في العلم بنور من الله تبارك وتعالى وبصيرة، فإني أحاول ـ قدر جهدي ـ اختزاله في مباحث رئيسة يغلب على ظني أنها ستميط اللثام عن الخطوط العريضة لهذا الموضوع المترامي الأطراف، وتلك المباحث سينتظم عقدها في ستة عشرة مبحثا هي كالآتي:
1- المبحث الأول: (الفتنة في لغة العرب).
2- المبحث الثاني: (الفتنة في القرآن الكريم).
3- المبحث الثالث: (الفتنة في السنة المطهرة).
4- المبحث الرابع: (العلاقة بين الفتنة في اللغة والفتنة في الكتاب والسنة).
5- المبحث الخامس: (الفتنة في العرف الشرعي).
6- المبحث السادس: (أقسام الفتنة باعتبار زمن حدوثها).
7- المبحث السابع: (الحكمة الشرعية من الإخبار بحدوث الفتن).
8- المبحث الثامن: (مصدر الفتن التي تقع على الأمة).
9- المبحث التاسع: (أسباب حدوث الفتن).
10- المبحث العاشر: (موقف المسلم من الفتن حين حدوثها).
11- المبحث الحادي عشر: (موقف المسلم من إسقاط أحاديث الفتن على أحداث آخر الزمان).
12- المبحث الثاني عشر: (فتنة العولمة على عقيدة المسلم).
13- المبحث الثالث عشر: (موقف المسلم من إثبات الوقائع بالرؤى المنامية زمن الفتن).
14- المبحث الرابع عشر: (متى يجب على المسلم اعتزال الناس في الفتنة؟).
15- المبحث الخامس عشر: (أسباب الوقاية من الفتن).
16- المبحث السادس عشر: (كيف تتم الوقاية من الفتن وهي واقعة لا محالة؟).
والله تعالى أسأل أن يمدني بعونه وتوفيقه وتسديده، لإخراج هذا البحث على الوجه الذي يرضيه، وأن يجعله علما نافعا وعملا صالحا مقبولا لديه، وأن يقيني زلة القدم وعثرة القلم فيه، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه، وهو حسبي ونعم الوكيل.
أ.د. علي بن سعد الضويحي
المبحث الأول
الفتنة في لغة العرب
لابد ـ قبل الحديث عن جوانب هذا الموضوع المهم ـ من التطرق إلى تعريف "الفتن"؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
فالفتن جمع "فتنة"، والفتنة في اللسان العربي تطلق ويراد بها عدد من المعاني، ومنها ما يأتي:
1- الابتلاء، تقول: (فتنت فلانا): إذا ابتليت صدقه وأمانته.
2- الإحراق بالنار، تقول: (فتنت الذهب والفضة): إذا أحرقتهما بالنار لتميز الرديء من الجيد.
3- اختلاف الناس بالآراء: فإن هذا الاختلاف قد يكون سببا في الفتنة، ولاسيما إذا كان منشأ ذلك الاختلاف التشهي والهوى، وليس البحث عن الحق والهدى.
4- الإعجاب بالشيء، تقول: "فتنت بورعه"، أي: أعجبت بما كان عليه من ورع.
5- الفضيحة، ومن ذلك قول الحق تبارك وتعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ [المائدة: 41]، أي: فضيحته.
6- الإزالة، يقال: "فتن الرجل": إذا أزاله عما كان عليه.
7- الجنون، يقال: "رجل مفتون"، أي: مجنون.
8- العذاب، ومنه قول الحق تبارك وتعالى في شأن المشركين: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ [الذاريات: 14]، أي: عذابكم.
9- القتل، ومن ذلك قول الحق تبارك وتعالى: فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [يونس: 83]، أي: أن يقتلهم.
10- الضلال والإثم( )، وذلك أن الإنسان إذا امتلأ قلبه بالشبهة والشهوة ـ والعياذ بالله تعالى ـ فتن بهما حتى يضل فيقع في الإثم العظيم من حيث يشعر أو لا يشعر.
هذه هي بعض المعاني التي فسر بها العرب "الفتنة" في لسانهم، إلا أن المعنى الأول وهو (الابتلاء) هو جماع تلك المعاني كلها، كما صرح بذلك الأزهري( ) وابن منظور( ) رحمهما الله تعالى، وكما صرح به غيرهما.
وذلك لأن كل المعاني المذكورة يمكن إدراجها في هذا المعنى الجامع، فالإحراق بالنار للذهب والفضة هو ابتلاء لجيدهما من رديئهما.
واختلاف الناس بالآراء هو ابتلاء لهم، ليعلم متبع الحق من متبع الباطل.
والإعجاب بالشيء ابتلاء لما في دخيلة الإنسان من حب الخير أو حب الشر؛ لأن كل إناء بما فيه ينضح.
والفضيحة ابتلاء من الله تبارك وتعالى للمفضوح، حتى تنكشف حقيقته للناس فلا يغتر به.
والإزالة ابتلاء من الله جل شأنه للعبد بميل قلبه من الهداية إلى الغواية، نسأل الله تعالى السلامة من ذلك.
والجنون ابتلاء للعبد بسلب العقل منه.
والعذاب ابتلاء لمن استحقه بسبب إعراضه وطغيانه.
والقتل ابتلاء للقاتل حين يبوء بإثم من قتله وتعدى على حرمة دمه.
والضلال والإثم ابتلاء لمن أوقع نفسه في أسبابهما حتى يجني ما اكتسبته يداه.
المبحث الثاني
الفتنة في القرآن الكريم
وردت "الفتنة" في ستة وخمسين موضعا من القرآن العظيم، وهي بحسب تسلسل الآيات في السور القرآنية الكريمة على النحو الآتي:
1- الموضع الأول: قول الله تبارك وتعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ [البقرة: 102].
ومعنى الفتنة هنا: هو "البلاء"، أي: "إنما نحن بلاء لبني آدم، فلا تكفر بربك"( ).
2- الموضع الثاني: قول الحق سبحانه: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 191].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الكفر والشرك"، أي: "شركهم بالله تعالى وكفرهم به أعظم جرما، وأشد من القتل الذي عيروكم به"( ).
3- الموضع الثالث: قول المولى جل شأنه: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة: 193].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الكفر"( ).
4- الموضع الرابع: قول الله تعالى: وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 217].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الكفر والشرك" كما سبق.
5- الموضع الخامس: قول الحق سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران: 7].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الإضلال"، أي: "الإضلال لأتباعهم، إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو حجة عليهم لا لهم"( ).
6- الموضع السادس: قول الله تعالى: كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا [النساء: 91].
ومعنى الفتنة هنا: "الشرك"، أي: "كلما دعوا إلى الإشراك بالله تعالى ارتدوا فصاروا مشركين"( ).
7- الموضع السابع: قول المولى سبحانه: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء: 101].
ومعنى الفتنة هنا: هو "القتل"، أو "الأسر" كما ذكر ذلك الإمام الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره( ).
8- الموضع الثامن: قول الله جل شأنه: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [المائدة: 41].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الضلالة". قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى: "ومعنى الفتنة في هذا الموضع: الضلالة عن قصد السبيل، يقول تعالى ذكره: ومن يرد الله يا محمد مرجعه بضلالته عن سبيل الهدى فلن تملك له من الله استنقاذا مما أراد الله به من الحيرة والضلالة، فلا تشعر نفسك بالحزن على ما فاتك من اهتدائه للحق"( ).
9- الموضع التاسع: قول الله عز وجل: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة: 49].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الصد"، أي: "واحذر يا محمد هؤلاء اليهود الذين جاءوك محتكمين إليك أن يفتنوك، فيصدوك عن بعض ما أنزل إليك من حكم كتابه، فيحملوك على ترك العمل به واتباع أهوائهم"( ).
10- الموضع العاشر: قول الحق سبحانه: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا [المائدة: 71].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء والاختبار"، أي: "وظن هؤلاء الإسرائيليون... ألا يكون من الله لهم ابتلاء واختبار بالشدائد من العقوبات بما كانوا يفعلون فعموا وصموا"( ).
11- الموضع الحادي عشر: قول الله جل شأنه: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الاختبار". قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى: "يقول تعالى ذكره: ثم لم يكن قولهم إذ قلنا لهم: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 22] إجابة منه لنا عن سؤالنا إياهم ذلك إذ فتناهم فاختبرناهم إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] كذبا منهم في أيمانهم على قولهم ذلك"( ).
12- الموضع الثاني عشر: قول الحق سبحانه: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا
[الأنعام: 53].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء والاختبار"، أي: "اختبرنا الناس بالغنى والفقر، والعز والذل، والقوة والضعف، والهدى والضلال، كي يقول من أضله الله وأعماه عن سبيل الحق للذين هداهم الله ووفقهم: أهؤلاء من الله عليهم بالهدى والرشد وهم فقراء ضعفاء أذلاء من بيننا ونحن أغنياء أقوياء، استهزاء بهم ومعاداة للإسلام وأهله"( ).
13- الموضع الثالث عشر: قول الله تعالى: يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ [الأعراف: 27].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الخداع والاختبار"، أي: "يا بني آدم لا يخدعنكم الشيطان فيبدي سوآتكم للناس بطاعتكم إياه عند اختباره لكم"( ).
14- الموضع الرابع عشر: قول المولى سبحانه: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ [الأعراف: 155].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء والاختبار". قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى: "ما هذه الفعلة التي فعلها قومي من عبادتهم، ما عبدوا دونك إلا فتنة منك أصابتهم، ويعني بالفتنة: الابتلاء والاختبار"( ).
15- الموضع الخامس عشر: قول الحق سبحانه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25].
ومعنى الفتنة هنا: هو "العذاب". قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "أمر الله المؤمنين إلا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب"( ).
16- الموضع السادس عشر: قول الله تبارك وتعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال: 28].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء والاختبار"، أي: "واعلموا أيها المؤمنون أنما أموالكم التي خولكموها الله، وأولادكم الذين وهبهم الله لكم اختبار وبلاء، لينظر كيف أنتم عاملون من أداء حق الله عليكم فيها"( ).
17- الموضع السابع عشر: قول الله جل شأنه: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال: 39].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الكفر"، كما سبق بيان ذلك.
18- الموضع الثامن عشر: قول الحق سبحانه: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال: 73].
ومعنى الفتنة هنا: هو "البلاء"، أي: "إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التعاون والنصرة على الدين تكن فتنة في الأرض"( )، حيث يحل البلاء بكم.
19- الموضع التاسع عشر: قول الله تعالى: وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التوبة: 47].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الكفر"( ).
20- الموضع العشرون: قول الله عز وجل: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ [التوبة: 48].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الصد عن الدين"، أي: "لقد التمس هؤلاء المنافقون الفتنة لأصحابك يا محمد، التمسوا صدهم عن دينهم، وحرصوا على ردهم إلى الكفر بالتخذيل عنه"( ).
21- الموضع الحادي والعشرون: قول الحق سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة: 49].
ومعنى الفتنة في قوله تعالى: وَلَا تَفْتِنِّي: هو "الابتلاء"، أي: "ولا تبتلني برؤية نساء بني الأصفر، فإني بالنساء مغرم"، والقائل ذلك هو "الجد بن قيس"( ).
ومعنى الفتنة في قوله تعالى: أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا: هو "الحرج والإثم"( ).
22- الموضع الثاني والعشرون: قول الله تبارك وتعالى: أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة: 126].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء والاختبار"، أي: "ثم هم مع البلاء الذي يحل بهم من الله، والاختبار الذي يعرض لهم لا ينيبون من نفاقهم، ولا يتوبون من كفرهم، ولا هم يتذكرون بما يرون من حجج الله، ويعاينون من آياته فيتعظوا بها، ولكنهم مصرون على نفاقهم"( ).
23- الموضع الثالث والعشرون: قول المولى تبارك اسمه: فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [يونس: 83].
ومعنى الفتنة هنا: هو "القتل" أو "العذاب"( ).
24- الموضع الرابع والعشرون: قول الحق سبحانه: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يونس: 85].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء والاختبار"، أي: "يا ربنا لا تختبر هؤلاء القوم الكافرين، ولا تمنحنهم بنا"( ).
25- الموضع الخامس والعشرون: قول الله عز وجل: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا [النحل: 110].
ومعنى الفتنة هنا: "التعذيب"، وذلك لإكراههم على التلفظ بكلمة الكفر( ).
26- الموضع السادس والعشرون: قول الله جل شأنه: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: 60].
ومعنى الفتنة هنا: "الابتلاء والاختبار"، وتلك الرؤيا هي رؤيا عين أريها رسول الله ليلة أسري به، فكانت بلاء للناس بين مصدق ومكذب( ).
27- الموضع السابع والعشرون: قول الله سبحانه: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء: 73].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الصد"، أي: "أن المشركين كادوا أن يفتنوا النبي عليه الصلاة والسلام بصده عما أوحاه الله تعالى إليه ليعمل بغيره"( ).
28- الموضع الثامن والعشرون: قول الله تبارك وتعالى: وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا [طه: 40].
ومعنى الفتنة والفتون هنا: هو "الابتلاء والاختبار"، كما قال ذلك حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما"( ).
29- الموضع التاسع والعشرون: قول الله جل جلاله: قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ [طه: 85].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الاختبار والامتحان"، أي: "اختبرناهم وامتحناهم بأن يستدلوا على الله عز وجل"( ).
30- الموضع الثلاثون: قول الله تعالى: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ [طه: 90].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء" أي: إن هارون عليه السلام قال لبني إسرائيل من قبل أن يرجع إليهم موسى عليه السلام: يا قوم إنما ابتليتم بعبادة العجل، وأُضللتم بذلك الابتلاء عن عبادة الله تبارك وتعالى"( ).
31- الموضع الحادي والثلاثون: قول الحق سبحانه: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طه: 131].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء".
وفي هذه الآية الكريمة يخاطب الله تبارك وتعالى نبيه محمدا بألا يجعل لزهرة الدنيا وزنا، فإنه لا بقاء لها( ).
32- الموضع الثاني والثلاثون: قول الله جل شأنه: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الاختبار"، أي: نختبركم بالشدة والرخاء، والحلال والحرام، فننظر كيف شكركم وصبركم"( ).
33- الموضع الثالث والثلاثون: قول الله تعالى: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [الأنبياء: 111].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الاختبار"، أي: "لعل الإمهال اختبار لكم ليرى كيف صنيعكم"( ).
34- الموضع الرابع والثلاثون: قول المولى عز وجل: وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ
[الحج: 11].
ومعنى الفتنة هنا: هو "البلاء".
والآية الكريمة تحكي حال المنافق، فهو إن صلحت له دنياه أقام على دينه، وإن فسدت عليه دنياه ترك الدين ورجع إلى الكفر( ).
35- الموضع الخامس والثلاثون: قول الحق سبحانه: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الحج: 53].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الضلالة"( ).
36- الموضع السادس والثلاثون: قول الله عز وجل: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور: 63].
ومعنى الفتنة هنا: هو فتنة القلب من كفر، أو نفاق، أو بدعة( ).
37- الموضع السابع والثلاثون: قول الله جل شأنه: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً [الفرقان: 20].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الامتحان"، أي: "وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض"( ).
38- الموضع الثامن والثلاثون: قول الله سبحانه: قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [النمل: 47].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء". قال قتادة رحمه الله تعالى: "تبتلون بالطاعة والمعصية"( ).
39- الموضع التاسع والثلاثون: قول الحق جل شأنه: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 1 - 3].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء"، أي: "إن الله تعالى لابد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عنده من الإيمان"( ).
40- الموضع الأربعون: قول المولى سبحانه: فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت: 10].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الأذى"، أي: "يجعل إيذاء الناس له في الدنيا كعذاب الله تعالى في الآخرة، حتى يرتد عن إيمانه"( ).
41- الموضع الحادي والأربعون: قول الله تبارك وتعالى: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا
[الأحزاب: 14].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الكفر"، أي: "إنهم لو دخل عليهم الأعداء من كل جانب من جوانب المدينة، وقطر من أقطارها، ثم سئلوا الفتنة وهي الدخول في الكفر لكفروا سريعا، وهم لا يحافظون على الإيمان، ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع"( ).
42- الموضع الثاني والأربعون: قول الله عز سلطانه: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ [الصافات: 62 - 63].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الاختبار"، أي: "إنما أخبرناك يا محمد بشجرة الزقوم اختبارا نختبر به الناس من يصدق منهم ممن يكذب"( ).
43- الموضع الثالث والأربعون: قول الله تعالى: فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ [الصافات: 161 - 162].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الإضلال"، أي: "ما أنتم بمضلين أحدا إلا من قدر الله عز وجل عليه أن يضل"( ).
44- الموضع الرابع والأربعون: قول الله سبحانه: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص: 24].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الاختبار"، كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما( ).
45- الموضع الخامس والأربعون: قول الحق سبحانه: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص: 34].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء"، وسبب ابتلاء نبي الله سليمان عليه السلام أنه قال: "لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن يأتين بفارس يجاهد في سبيل الله"، ولم يقل: "إن شاء الله"، فلم تحمل منهن إلا امرأة جاءت بشق رجل، وهذا الشق هو الجسد الذي القي على كرسيه حين عرض عليه( ).
46- الموضع السادس والأربعون: قول الله جل شأنه: فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 49].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء والاختبار"، أي: "بل عطيتنا إياهم تلك النعمة من بعد الضر الذي كانوا فيه فتنة لهم، يعني: بلاء ابتليناهم به، واختبارا اختبرناهم به"( ).
47- الموضع السابع والأربعون: قول الله عز وجل: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ [الدخان: 17].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الاختبار"، أي: "ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون، وهم قبط مصر"( ).
48- الموضع الثامن والأربعون: قول الحق سبحانه: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [الذاريات: 13 - 14].
ومعنى الفتنة هنا: هو "التعذيب والتحريق"، كما قال ذلك ابن عباس، ومجاهد، والحسن وعكرمة، وإبراهيم النخعي، وزيد بن أسلم، سفيان الثوري( ).
49- الموضع التاسع والأربعون: قول الله تبارك وتعالى: إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ [القمر: 27].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الاختبار"، حيث "أخرج الله تعالى لقوم صالح عليه السلام ناقة عظيمة عشراء من صخرة صماء طبق ما سألوا، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح عليه السلام فيما جاءهم به"( ).
50- الموضع الخمسون: قول الله جل شأنه: وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ [الحديد: 14].
ومعنى الفتنة هنا: هو "النفاق"، أي: "إنهم فتنوا أنفسهم بنفاقهم، فاستحقوا العقاب على ذلك بإطفاء النور عنهم"( ).
51- الموضع الواحد والخمسون: قول الله عز سلطانه: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة: 5].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء والاختبار" كما سبق.
52- الموضع الثاني والخمسون: قول الله سبحانه: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن: 15].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء والاختبار" كما سبق.
53- الموضع الثالث والخمسون: قول الله تعالى: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ [القلم: 5 - 6].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الضلال"، أي: "فستعلم يا محمد وسيعلم مخالفوك ومكذبوك من المفتون الضال منك ومنهم"( ).
54- الموضع الرابع والخمسون: قول المولى عز وجل: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الجن: 16 - 17].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الابتلاء والاختبار"، أي: "لنبتليهم من على الهداية ممن يرتد إلى الغواية"( ).
55- الموضع الخامس والخمسون: قول الله سبحانه: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [المدثر: 31].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الاختبار"، أي: "إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعة عشر اختبارا منا للناس"( ).
56- الموضع السادس والخمسون: قول المولى جل شأنه: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج: 10].
ومعنى الفتنة هنا: هو "الإحراق"، أي "حرقوا المؤمنين والمؤمنات" كما في قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وغيرهم( ).
وبهذا الحصر يعلم أن الفتنة قد كثير ورودها في كتاب الله تبارك وتعالى، وما ذلك إلى لخطورة شأنها، وشدة تأثيرا على الأفراد والجماعات، نسأل الله سبحانه السلامة من نزغات الهوى ومضلات الفتن.
المبحث الثالث
الفتنة في السنة المطهرة
تضافرت الأحاديث الكثيرة في سنة النبي الريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وتظاهرت على حدوث الفتن في واقع الأمة المسلمة في آخر الزمان.
ومن تلك الأحاديث ما ثبت في الصحيحين من حديث الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي قال: «ستكون فتن القاعدة فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد فيها ملجأ أو معاذا فليعذ به»( ).
وما ثبت في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى من حديث الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي قال: «يتقارب الزمان، وينقص العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج». قيل: يا رسول الله وما الهرج؟ قال: «القتل»( ).
وما ثبت في صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى من حديث الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي : «والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل، ولا يدري المقتول على أي شيء قتل»( ).
وما ثبت في سنن ابن ماجه رحمه الله تعالى من حديث الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قام رسول الله فخطبنا، فقال «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيرا لهم، وينذرهم ما يعلمه شرا له، وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها، وإن آخرهم يصيبهم بلاء وأمور تنكرونها، ثم تجيء فتن يرقق بعضها بعضا، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، ثم تجيء فتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف»( ).
بل إن تلك الفتن ستشتد آخر الزمان شدة عظيمة تخرج عن نطاق التحمل، لدرجة أن المسلم يذهب إلى المقبرة ويتمنى أن لو كان أحد أمواتها قبل حدوث هذه الفتن، ففي المتفق عليه من حديث الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي قال: «لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه»( ).
فهذه الفتن ـ نسأل الله تعالى السلامة من مضلاتها ـ قد كسر بابها فلن يغلق أبدا، لما ثبت في الصحيحين أن الخليفة الراشد المحدث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سأل خبير أحاديث الفتن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه عن الفتن التي تموج كموج البحر؟، فقال: "ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابا مغلقا" قال عمر: "أيكسر الباب أم يفتح؟"، قال: "بل يكسر"، قال عمر: إذا لا يغلق أبدا"( ).
وإذا فتح باب الفتن بلا إغلاق، فإن هذه الفتن لا تزال تباعا تخيم على الأمة بظلماتها، حتى يأذن الله تبارك وتعالى بقيام الساعة، كما ثبت ذلك في حديث الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أن النبي قال: «إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم»( ).
ومن هذا الاستعراض الموجز يتبين بجلاء أن دواوين السنة المطهرة المنقولة أحاديثها عمن لا ينطق عن الهوى رسول الرحمة والهدى عليه الصلاة والسلام، قد حفلت بالأخبار الكثيرة والمستفيضة عن حدوث تلك الفتن في واقع الأمة ولا محالة، فنسأل الله تعالى العون والتسديد والتثبيت.
المبحث الرابع
العلاقة بين الفتنة في اللغة
والفتنة في الكتاب والسنة
العلاقة بين معنى "الفتنة" في اللغة العربية، ومعنى الفتنة في الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة علاقة وثيقة جدا، فإن القرآن الكريم في جميع مواضع ورود لفظ "الفتنة" فيه أطلق ذلك اللفظ على معان متعددة، وتلك المعاني هي: الابتلاء، الاختبار، النفاق، الإحراق، الإثم، الحرج، القتل، الأسر، الخداع، العذاب، الصد، الإضلال، الكفر، الشرك، والأذى.
وهذه المعاني القرآنية كلها يجمعها قاسم مشترك أعظم، وهو "الابتلاء"، وقد سبق أن هذا المعنى هو الجامع للمعاني اللغوية التي فسر بها العرب لفظ "الفتنة" في لسانهم.
وكذلك المتأمل في سنة النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم يجد أن لفظ "الفتنة" فيها يدور حول معنى واحد يرجع إليه كل أنواع الفتن، وهو "الابتلاء"، سواء كان هذا الابتلاء بالقتل، كما ثبت في حديث الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي قال: «لا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج،»، قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: «القتل القتل»( ).
أو كان ذلك الابتلاء بقلة العلم وفشو الجهل، كما ثبت في الصحيحين من حديث الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أن النبي قال: «إن بين يدي الساعة أياما يرفع فيها العلم وينزل فيها الجهل»( ).
أو كان ذلك الابتلاء بالصد عن الدين، كما ثبت في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى من حديث الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه أن النبي قال: «دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها»( ).
أو كان ذلك الابتلاء بجور السلطان، كما جاء في حديث الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي قال: «ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم»( ).
وبهذا تكون السنة المطهرة دليلا مؤكدا للمعنى اللغوي الجامع للفتنة وهو "الابتلاء"، كما سبق بيان ذلك في موضعه، مما يدل على أن معنى "الفتنة" في الكتاب والسنة هو بعينه معنى "الفتنة" في لغة العرب، ولا غرو في ذلك فإن القرآن الكريم نزل باللسان العربي المبين، والسنة المطهرة قد نطق بها أفصح من تكلم بالعربية عليه الصلاة والسلام.
المبحث الخامس
الفتنة في العرب الشرعي
علمنا فيما سبق أن "الفتنة" في اللسان العربي تطلق على معنى جامع، وهو "الابتلاء"، وهذا المعنى الجامع هو الذي أيدته نصوص الكتاب الكريم والسنة المطهرة من خلال الآيات والأحاديث التي تم استعراضها آنفا.
وأما "الفتنة" في العرف الشرعي، فهي لا تخرج بحال عن المعنى اللغوي الجامع، إذ يمكن تعريفها بأنها: ما يصيب المسلم من خير أو شر في دينه أو دنياه.
وبناء على هذا التعريف الشرعي، فإن "الفتنة" كما تكون بالشر تكون بالخير أيضا، بل ربما تكون الفتنة بالخير أشد من الفتنة بالشر، ويؤيد ذلك ما أخبرنا به الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه حين قال: "ابتلينا مع رسول الله بالضراء فصبرنا، ثم ابتلينا بعده بالسراء فلم نصبر"( ).
ومن هنا فإن الله تعالى جعل ما ينعم به على عباده من نعمة الأموال والأولاد والزوجات فتنة، كما دل على ذلك في قوله سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال: 28].
وكما دل على ذلك أيضا قوله جل شأنه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14].
ومما يدل على أن "الفتنة" في العرف الشرعي هي الإصابة بالشر والخير قول الحق تبارك وتعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35].
حيث جعل المولى سبحانه الابتلاء بالشر والخير هو الفتنة بعينها.
وعلى ذلك، فالتطابق بين التعريف اللغوي والتعريف الشرعي للفتنة ظاهر بين، فكلاهما يدور في فلك "الابتلاء والاختبار"( ).
المبحث السادس
أقسام الفتن باعتبار زمن حدوثها
تنقسم الفتن باعتبار زمن حدوثها إلى قسمين رئيسيي، وهما:
1- القسم الأول: (فتن عامة):
وهذه الفتن إنما اكتسبت صفة العموم لكونها تشمل جميع أزمن الناس، منذ الزمن الذي وجد فيه أبو البشر آدم عليه السلام، الذي ابتلاه الله تبارك وتعالى بالنهي عن الأكل من شجرة معينة في الجنة، ففتنه الشيطان بالأكل منها، وفي ذلك يقول المولى سبحانه: وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف: 19 - 22].
ويقول سبحانه: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه: 120 - 122].
وستستمر تلك الفتن في ذريته عليه السلام إلى أن يرث الله تبارك وتعالى الأرض ومن عليها.
وهذه الفتن العامة في زمانها تتنوع إلى عدة أنواع، ومن أهمها على الإطلاق ثمان، وهي كما يلي:
1- الفتنة الأولى: (فتنة الشيطان): فإن الشيطان بعد أن فتن نبي الله آدم عليه السلام، حتى تسبب في إهباطه من الجنة إلى الأرض، فقد قطع على نفسه العهود والمواثيق بإفتان البشر وإغوائهم إلى يوم القيامة، وهذا ما أخبرنا به الحق سبحانه عنه في قوله تعالى: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 62].
ويبين لنا الحق سبحانه عظم فتنة الشيطان لبني آدم، فيقول عز وجل في شأنه: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 16 - 17].
ومن هنا فقد حذرنا ربنا تبارك وتعالى من إفتان الشيطان لنا بقوله سبحانه: يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 27].
وأمرنا سبحانه بأن نتخذ هذا الشيطان عدوا، فقال جل شأنه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6].
والحكمة من الأمر باتخاذه عدوا هي الحذر من الإفتتان بهمزاته ونفثاته ونزغاته؛ لأن العاقل لا يثق بمن تبين عداوته له، وتحقق من حقده عليه.
وموقف المسلم من فتنة الشيطان هو اللجوء إلى الله تعالى بصدق ويقين، وهذا هو العلاج الرباني الذي أرشدنا إليه المولى سبحانه للنجاة من هذه الفتنة العظيمة في قوله عز سلطانه: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 36].
2- الفتنة الثانية: (حب العيش وكراهية الموت)، وهذه ـ بلا شك ـ فتنة عظيمة، تجعل المفتون بها متعلقا قلبه بحب الحياة وطول البقاء في الدنيا، ويكفي بتلك الفتنة شؤم عار على صاحبها أنه متأس في ذلك باليهود، ومقتد بالمنافقين، ومخالف لهدي الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام، ولما كان عليه أصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
أما التأسي باليهود، فلأن من أعظم صفاتهم الذميمة الحرص الشديد على الحياة، وهذا ما أخبر به العليم الخبير سبحانه عنهم في كتابه الكريم بقوله جل شأنه: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [البقرة: 96].
وأما الاقتداء بالمنافقين، فلأن من أعظم صفاتهم إيثار الحياة على الموت في سبيل الله تعالى، وليس أدل على ذلك من قوله سبحانه في شأنهم: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81].
وأما المخالفة لهدي النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولصحابته الغر الميامين رضي الله تعالى عنهم ورفع درجاتهم في عليين، فلأن ديدنهم المعهود عنهم طيلة حياتهم إنما هو تقديم الأرواح فداء لدينهم عقيدتهم، حتى رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه.
وإذا أراد المسلم الانتصار على تلك الفتنة، فليكن موقفه موقف التأسي برسول الله في هذه الصفة الإيمانية العظيمة، امتثالا لقول الحق سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21].
3- الفتنة الثالثة: (الهوى)، ويكفي في الفتنة به أنه سبب رئيس للضلال عن الهدى، كما قال سبحانه: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 43 - 44].
كما يكفي في الفتنة به أنه سبب رئيس للختم على السمع والقلب وجعل الغشاوة على البصر، ليكون هذا المفتون بعيدا عن أسباب الهداية، وفي ذلك يقول المولى سبحانه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23].
كما يكفي في الفتنة به أنه يخلد بصاحبه إلى الأرض، فيكون مكبلا في التراب والطين، بحيث لا يجد للرفعة سبيلا، وفي ذلك يقول الحق سبحانه: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف: 176].
وعلى المسلم الحق أن يقف بحزم ضد هوى نفسه، خوفا من الله تبارك وتعالى، ورجاء في جنته، وهذا ما وعد به سبحانه بقوله: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 40 - 41].
4- الفتنة الرابعة: (الدنيا)، فهي غرارة خداعة، تتزخرف للإنسان حتى ينشغل بلذتها الفانية عن سعادة الآخرة الباقية، ومن هنا فقد حذر الله تبارك وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام من مد عينيه إلى زهرة الدنيا، حيث قال له سبحانه: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طه: 131].
كما حذر سبحانه عموم عباده من الاغترار بها، حيث قال عز سلطانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [فاطر: 5].
وذلك أن من أشرب قلبه حب الدنيا آثرها على الآخرة، وهذا هو بريد البوار والهلاك، كما قال المولى سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس: 7 - 8].
والمسلم الحق هو الذي يقف من هذه الدنيا موقف منتهز الفرص، بحيث يجعلها مطية للدار الآخرة، بإعمارها بطاعة الله تعالى وعبادته، هي الفطنة والكياسة، كما قال الشاعر:
إن لله عبادا فطنا
ط
طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا
أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سفنا
5- الفتنة الخامسة: (المال)، وليس خافيا على أحد تعلق الناس بالمال، والسعي إلى تحصيله وتكديسه، بدافع حبهم له وحرصهم عليه، كما قال المنعم سبحانه مبينا هذه الحقيقة الغريزية للإنسان: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر: 20].
وقال سبحانه: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8].
ولا ضير على المسلم أن يسعى إلى جمع المال المكتسب بالطريق المشروع، إذا كان يعرف حق الله تبارك وتعالى فيه، ويحرص غاية الحرص على إيصال ذلك الحق إلى ذويه، فإن المال زينة الحياة كما قال المولى سبحانه: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
[الكهف: 46].
ولكن الضير كل الضير أن يفتتن المسلم بهذا المال، بحيث يجعل التحاكم إليه ولاء وبراء، فلا يحب إلا من أجله، ولا يبغض إلا في سبيله، فهذا دليل العبودية للمال التي تؤول بصاحبها إلى تعاسة الحال والمآل، كما ثبت في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى من حديث الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض»( ).
والمال الذي تصل فتنته بصاحبه إلى هذه المرتبة، يكون عذابا عليه في الدنيا قبل الآخرة، وهذا ما أخبر الله تبارك وتعالى به عن المنافقين، حين قال سبحانه في شأنهم مخاطبا نبيه محمدا : فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 55].
6- الفتنة السادسة: (الزوجة)، وذلك أن بعض الأزواج قد يدفعه تعلقه بزوجته، أو يدفعه ضعف شخصيته أما إرادتها، إلى التنازل عن الكثير من أمور الدين، فيتحول بسبب ذلك من الاستقامة على منهج الرحمن إلى المخالفة والعصيان، حتى لا يجرح شعور زوجته بفعل شيء ليست فيه براغبة، وهذه ـ بلا شك ـ فتنة عظيمة تقود إلى الفسق الذي حذر منه الحق سبحانه في قوله قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاك
( ) القطط: هو الشعر الجعد القصير. (لسان العرب، مادة "قطط" 7/380).
( ) أخرجه مسلم في كتاب "الفتن"، باب "ذكر الدجال". (صحيح مسلم بشرح النووي 18/63 – 65).
( ) أخرجه مسلم في كتاب "الفتن وأشراط الساعة"، باب[