منتديات أنا مسلمة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات أنا مسلمة لكل المسلمين والمسلمات


    الشمس والصيف زفراة وثمرات

    amal
    amal
    مدير عام
    مدير عام


    عدد المساهمات : 584
    نقاط : 3152
    تاريخ التسجيل : 09/04/2009
    العمر : 44
    الموقع : https://tita.yoo7.com

    الشمس والصيف زفراة وثمرات Empty الشمس والصيف زفراة وثمرات

    مُساهمة  amal السبت يونيو 26, 2010 9:28 am


    الشمس والصيف زفراة وثمرات
    المقدمة
    الحمد لله الذي جعل في السماء بروجا, وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هاديا ومبشرا ونذيرا ( ).
    أما بعد:
    فإن الإنسان مهما أوتي من علم وإبداع وتقنيات واختراعات، سيظل هو ابن بيئته وأرضه وإن اخترق الفضاء وقطع المسافات والأرجاء ومهما أوتي من قوة وتفكير, فلن يستطيع أن يغير الكثير مما أودعه الله وجعله الله في هذه الخليقة وفي هذا الكون الفسيح، قال الله تعالى: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21] وقد أمر سبحانه عباده بالنظر والتفكر والإبداع، قال الله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 191]، وقال الله تعالى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يونس: 101].
    فهذا الكون وما فيه من حكم باهرات، وآيات بالغات، وأسرار وعظات، يدعو كل مسلم بل كل عاقل لإعمال العقل والقلب والسمع والبصر في كل ما يحيط به، فتفكر – أخي في الله – في نفسك التي بين جوانحك وتفيَّأ قول ربك وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] ثم انطلق وسافر عبر هذا الكون وتذكر قول مولاك لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غافر: 57] وقوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا [النازعات: 27].
    فتلمس ما فيه من أسرار، وقف وقفة العبد المشفق على نفسه, المقر بعظمة ربه, وثق أن الله سيفتح لك أبواب فضله ورحمته، فمن أنار الله بصيرته فسينفذ ويتجاوز السماء وما فيها من نجوم وكواكب وأقمار ويتجاوز الأرض وما فيها من سهول ووهاد ومن جبال وتلال وبحار وقفار، ويجول ببصيرته قبل بصره في ملكوت هذا الكون الذي يشهد بعظمة خالقه، ولن تلبث إلا أن تفتح لك أبواب المعرفة والإيمان مصاريعها حتى ينتهي بك المطاف إلى الإذعان بعظمة هذا الخالق, ويثبت قلبك وتطرق هيبة وخشوعا لمولاك وسيدك، فيثمر ذلك سعادة وحياة ولذة بل وتحيا في جنة الحياة قبل جنة الخلد، وستجد ذلك مستقرًا في سويداء قلبك مهما اعترتك نوائب الدهر وخطوب الزمان.
    وتذكر أنك مهما نقلت فؤادك, فلن يستقر ويطمئن إلا لحبيبه الأول, وموجده ربه ووليه سبحانه وتعالى الذي ليس لك من دونه ولي ولا شفيع ولا غنى لك عنه طرفة عين، ولا تكن - يا رعاك الله – ممن خرج من هذه الدنيا ولم يُذِقْ أطيب ما فيها وهل تدري ما أطيب ما فيها، إنه: (معرفة الله، ومحبته، والأنس بقربه والشوق إلى لقائه).
    ولقد أكثر سبحانه من ذكر التفكر والتدبر في كتابه الكريم، فالتفكر والتذكر هما قطبا السعادة، ومعين هذا الدين الذي لا ينضب، فالتفكر في حد ذاته عبادة، وكما قيل الفكرة تذهب الغفلة، وتحدث للقلب خشية، والتذكر يحدث بإذن الله تعالى، عند العبد رجوعًا وإنابةً وخضوعًا وعبادةً، ويعلم ذلك المنيب أن كل معصية مهما صغرت فهي عظيمة في جنب عظمة الخالق سبحانه وتعالى, وكما قيل (لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظمة من عصيت)، كيف لا؛ والمعصية شرخ في بنيان العبودية والتوحيد.
    وله في كل شيء

    آية تدل على أنه الواحد

    فيا عجبا كيف يعصى الإله

    أم كيف يجحده الجاحد

    وقفة تأمل وتدبر:
    مما لا شك فيه أن للتذكير بما يوافق الأحوال والأزمان الأثر البالغ لمن رزقه الله قلبًا واعيًا، ونفسًا مؤمنة، قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37] فها هو كتاب ربنا جل وعلا يذكرنا بما أودع سبحانه في هذا الكون من آيات كونية؛ فهو الكتاب المنظور الناطق بعظمة موجده وخالقه، قال تعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 185] وقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] ونعوذ بالله أن نكون ممن وصفهم ربهم فقال عنهم فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأحقاف: 26] بل إنه سبحانه وَصف من أعرض عن النظر والتدبر في ملكوته ومخلوقاته سبحانه بِشَرِّ وَصْفٍ فقال عنهم قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يونس: 101] وقال عز من قائل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد: 12] فالمؤمن من تحرك قلبه وتذرف عينه كل ذرة وكل نسمة ولك آية تذكرة بمولاه؛ فيلهج من سويداء قلبه: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك وما قدرناك حق قدرك رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 191] وهاأنت حين تقلب النظر وتجول بالفكر وتتلو باللسان كلام الرب المنان, قلَّ أن تجد سورة من سور القرآن إلا وفيها ذكر السموات والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، والجبال والبحار إما إخبارا عن عظمتها أو إقساما بها، وإما دعوة للنظر والتأمل فيها، وإما تدليلاً منه جل وعلا بربوبيته وألوهيته وإما دعوة إلى توحيده والخضوع له، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء: 44] فكل ما في هذا الكون من الذرة إلى المجرة وما فوقها يسبح لله ويذعن بربوبيته وألوهيته، وذكر هذه الآيات فيه من الحكم ما الله به عليم، قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران: 190] ويكفي العبد من ذلك كله قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان: 47]، فمسكين ذلك الإنسان المتمرد على خالقه، الظالم لنفسه * يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار: 5، 6] ولكن صدق الله في وصف هذا المخلوق إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب: 72] إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34] قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: 17] وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] بل ويتمادى ويماري ويجادل فيمن خلقه وأوجده من العدم أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس: 77] فعجيب أمر هذا الإنسان، قال تعالى: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 28] خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق: 6] خلق من نطفة قذرة ويحمل في جوفه العذرة، وإذا مات أصبح جيفة منتنة تبحث عمن يواريها؛ لتعود فيما خلقت منه في رحلة هي مهما طالت فإنها قصيرة مشوبة بالآلام والأكدار، قال تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ [طه: 55] مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس: 19-21] بل ترى ذلك الكافر الذي طمس الله بصيرته في الدنيا حينما يرى البهائم أمام ناظريه تتهاوى ترابا يقول بلسان الحسرة يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [النبأ: 40] وينسى أنه يوما ما لم يترفع عن التراب بل ترفع عن الناس وعن كلام الحق بل وعن العبادة لرب الناس، ورب العباد، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف: 172].
    وقد يأخذنا الحديث ونخرج عما نحن بصدده، ولكن يبقى أن قول المسلم وفعله وفكره يتجه أينما اتجه الله فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115]، ففي تصريف الأيام والشهور، وتقلب الأزمان والدهور، ما بين ليل ونهار، وظل وحرور، وصيف وشتاء، وحر وقرٍّ تذكرة وموعظة لذوي الحجا والألباب.
    الفصول الأربعة:
    فمن تأمل هذه الشمس في اختلاف مشارقها ومغاربها وفي انخفاضها وارتفاعها لإقامة هذه الفصول الأربعة بإذن الله وتدبيره وما فيها من مصالح للعباد لا تُعَدُّ ولا تحصى، فلو كان الزمان فصلا واحدا لا يتغير أو ليلا أو نهارا سرمديين لفاتت المصالح، فبقدر حاجة الناس والمخلوقات للفصول الأربعة ولليل والنهار قدر سبحانه جريان الأفلاك جعل محور الأرض مائلا, ولولا هذا الميلان لتساوى الليل والنهار ولانعدمت الفصول الأربعة في كل بقاع الأرض ولتفاوتت درجات الحرارة بين الليل والنهار تباينا وتفاوتا تستحيل معه الحياة على هذه الأرض، قال تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40] فيأتي الشتاء حيث تغور الحرارة وتبرد الظواهر ويتحرك فيه الهواء فيحصل السحاب والمطر الذي يحيي به الله الأرض وأهلها، والخلق أيضا بحاجة للربيع وهوائه الطلق ونسمائه الغواصة ما بين الرمال الساكنة والشواطئ الهادئة حيث تتحرك الطبائع وتزهر النباتات وتتفتح الورود وتتحرك الغرائز الحيوانية, فتتوالد وتتناسل، أما ذلك الصيف الذي قد لا يذكره الكثير إلا بشدة حره وسمومه ففيه من الأسرار ما الله به عليم، فحين يسخن الهواء وتشتد أشعة الشمس تنضج الثمار، وتتحلل فضلات الأبدان، وتبرد الأغوار، وتخرج حرارة الأجساد، وحين يجيء الخريف ويعتدل الزمان ويصفو الهواء، ففي ذلك كله حكمة بالغة وآيات ماثلة وكل ذلك يحدث في تدرج بديع ومراحل برزخية وأوقات بينية، وقبل ذلك إيلاج الليل في النهار وانسلاخ النهار من الليل كل ذلك قد لا يعيه العقل حقيقة إلا حينما نتصور لو انتقل الإنسان من الحر الشديد والبرد الشديد أو من الظلام الدامس إلى النهار المبصر, فسبحان من جمع بين ضياء النهار وظلام الليل وحر الصيف وبرد الشتاء مع تضادهما متعاونين متظاهرين لإقامة مصالح العباد ( )، قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [القصص: 71، 72] فسبحانه خص النهار بذكر البصر فيه، وخص الليل بالسمع؛ إذ تسكن الأصوات، قال تعالى: فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [الإسراء: 12] يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الحديد: 6].
    وبعد هذه الكلمات التي نسأل الله أن يحيي بها قلوبنا، يجدر بنا أن ندلف إلى موضوعنا الرئيس ألا وهو ما بدأنا نلمسه ونشعر به هذه الأيام، فها هي الشمس تقترب أو عَلَّها وصلت أوجها في السماء حيث تسقط أشعتها عمودية على مدار السرطان بما يسمى (الانقلاب الصيفي) وذلك في 22 يونية حيث تدخل الشمس عبر ثلاثة بروج هي (الميزان – العقرب - القوس)( ) وفي الوقت نفسه نجد أن نصف الكرة الجنوبي يعيش انقلابا شتويا, فسبحانه من بيديه ملكوت كل شيء.
    الصيف والشمس:
    فها هو الصيف يطرق أبواب الأجواء من خلال لفحاته الملتهبة، وسمومه المحرقة، ورمضائه المتوقدة عبر الشمس وأوار الحر وشدة سموم الهاجرة ما قد يفقد العاقل صوابه حين يستحر القيظ وتحتدم الحرارة، حتى إنك ترى حين تقوم قائمة الظهيرة وتشتد حمَّارة القيظ وينحدر النهار وتسكن الرياح والأرواح حتى لا تسمع حسا ولا همسا ويخيل إليك أن الحياة قد انقطعت تماما من على ظهر المعمورة ( ).
    وحين تتفيأ الشمس وتعلن عن قرب رحيلها وغروبها، يتنفس المرء الصُّعَدَاءَ ظانا أن وهجان الحر قد انطفأ إلا أن الأمر ليس كما يظن فما زالت الحرارة كامنة والأجواء متقدة أما ما جاور البحار فلا تزال ذرات الهواء مشبعة ببخار الماء حتى أنك لا تجد من الهواء ما تتنفسه فلا تكاد تنسى أو تتناسى أوار الحر وشدة سموم الهاجرة حتى تغشاك الحرور ووغرات الصيف والرطوبة التي لا تطاق، وقد يقضي أناس هذا الفصل ما بين تذمر وتأفف وينتظرون فراقه على أحر من الجمر، وما هم من الحرارة ببعيد.
    ولكن رغم ذلك كله فالعاقل الأريب، والمسلم زكي القلب والعقل يقف تجاه ذلك وقفة المؤمن المتعبد المتذكر المدكر بأن هذا أمر الله، وجند من جنوده جعله سبحانه لحكمة بالغة فيقف متفكرا والتفكر نور الإيمان، وحين ينير الله بصيرة المؤمن وفؤاده ومن خلال ما يرى وما يسمع ويقرأ في كتاب ربه المسطور والمنظور, فيرتفع إيمانه ويعلو من درجة علم اليقين إلى درجة عين اليقين فيتصور الجنان كأنه يراها ويتصور النار وما يكابده أهلها من عذاب وجحيم، ولا يزيد على أن يسلم لمولاه ويسأله الجنة والنجاة من النيران.
    ولعله آن الأوان أن نشرع في المراد ولب المقصور وهو وقفات وتأملات ودروس مع الصيف والحر والشمس وليكن شعارنا (لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى وعظيم خلقه لما عصوه سبحانه).
    ابن القيم وأسرار الشمس:
    ولنقف مع الإمام ابن القيم رحمه الله وهو يذكر شيئا من أسرار هذه الشمس فيقول: (ثم انظر إلى مسير الشمس في فلكها في مدة سنة، ثم هي في كل يوم تطلع وتغرب بسير سخرها له خالقها، لا تتعداه، ولا تقصر عنه، ولولا طلوعها وغروبها لما عرف الليل والنهار ولا المواقيت، ولأطبق الظلام على العالم أو الضياء، ولم يتميز وقت المعاش من وقت السبات والراحة، وكيف قدر لها السميع العليم سفرين متباعدين؛ أحدهما: سفرها صاعدة إلى أوجها، والثاني: سفرها هابطة إلى حضيضها، تنتقل في منازل هذا السفر منزلة منزلة، حتى تبلغ الفصول من الصيف والشتاء والخريف والربيع، فإذا انخفض سيرها عن وسط السماء برد الهواء، وظهر الشتاء، وإذا استوت في وسط السماء اشتد القيظ وإذا كانت بين المسافتين، اعتدل الزمان، وقامت مصالح العباد والحيوان والنبات بهذه الفصول الأربعة، واختلفت بسببها الأقوات وأحوال النبات وألوانه ومنافع الحيوان والأغذية وغيرها)( ).
    الشمس ولغة الأرقام:
    أما عن الحكم الإلهية التي أودعها الله هذه الشمس والتي قد تكرر ذكرها في الكتاب المبين قرابة ثلاثة وثلاثين مرة وقبل أن أورد هذه الدروس والوقفات، فأستسمح القارئ الفاضل في إيراد جملة من المعلومات عن هذه الشمس بما يسمى بلغة الأرقام فدقق وتأمل وأمعن النظر:
    فإن كنت تظن أن هذه الشمس قريبة منك, فاعلم أنها تبعد عنك قرابة 150.000.000 كم (مائة وخمسون مليون كم) وهي أقرب منا في فصل الشتاء من فصل الصيف، فقربها في الشتاء يصل إلى 147 مليون كم وفي الصيف يقدر بعدها بمسافة 152 مليون كم وذلك لأنها عمودية في الصيف مائلة في الشتاء (فسبحان من قدر كل شيء).
    وإن كنت تظن أن أشعتها التي تكاد تحرق جسدك الغض فاعلم أن ما يصلك من حرها هو بمعدل (1/ 1000.000.000) (واحد إلى مليار).
    أما حرارتها عند سطحها فتقدر بـ 6000م (ستة آلاف) أما جوفها فلا أظن أن يخطر على بال. وحين تزهو بنفسك أو بدارك أو قصرك أو عقارك تذكر أن هذه الأرض بل والكواكب والتوابع والمذنبات والشهب التابعة للمجموعة الشمسية لا تشكل إلا 1% فقط من كتلة هذه المجموعة، وبقية المائة أي 99% هي كتلة هذه الشمس النجم الملتهب.
    وما زلنا في لغة الأرقام, فإن كنت تصورت كبر هذه الشمس وضخامتها فأضف إلى معلوماتك الآتي:
    أن نجم الشِّعْرَى يفوق الشمس بـ 50 مرة.
    أما نجم سهيل فيفوق الشمس بـ 2500 مرة.
    أما السماك فيفوق الشمس بـ 8000 مرة ( ).
    وكلها نجوم تراها ليلا ولكن كل السر أن الشمس نجم قريب منا فقط (150 مليون كم)، ورغم ذلك فإنه بمجرد دوران الأرض عن مواجهة الشمس يحل الليل لأن النهار هو الذي يجليها قال تعالى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [الشمس: 1-4].
    أما المعلومة الرقمية الأخيرة فهي:
    أن مجموعتنا الشمسية تشكل 1 من 120.000 مليون من مجرتنا درب التبانة.
    ومجرتنا درب التبانة تشكل 1 من 100.000 مليون مجرة في هذا الكون الفسيح.
    فكيف ترى نفسك الآن حيال هذه الأرقام؟ وما حجمك؟( ).
    الشمس وقفات وثمرات:
    أما الدروس والوقفات كثيرة، ولكن نذكر منها ما اقتنصه القلم، وستكون هذه الوقفات أولاً مع هذا النجم الملتهب المحرق، مع هذه الشمس التي أقول هي بالفعل إكسير الحياة فنقف معها ونرى ما أوجد الله من أسرار وحكم في هذا النجم الملتهب:
    الوقفة الأولى: قيام الليل والنهار.
    الوقفة الثانية: سعي الناس وطلبهم الرزق في نورها حيث تعم الحركة أرجاء الأرض.
    الوقفة الثالثة: في غروبها وغيابها هدوء وقرار ونوم ليقوم الجسم بوظائفه وليستعد لحياة جديدة.
    الوقفة الرابعة: أن تغير مواقعها من انخفاض وارتفاع ومواضع شروقها وغروبها إقامة للأزمنة والفصول.
    الوقفة الخامسة: أنها لو دامت مشرقة متقدة لأحرقت كل ما في الأرض.
    الوقفة الخامسة: ضبط الأزمنة والأوقات حسب حركتها ومن ذلك أوقات الصلوات سواء بالظل أو الشفق.
    الوقفة السابعة: أن الكواكب التي حولها مرتبطة بها وتسير في فلكها من خلال الجاذبية الشمسية.
    الوقفة الثامنة: أنها مصدر الطاقة الحرارية والضوئية لكل المجموعة الشمسية بما فيها الأرض والأقمار التي تعكس أشعتها.
    الوقفة التاسعة: أن عملية (التمثيل الضوئي) الذي تحيا به النباتات وتثمر يقوم على أشعة الشمس ومن ثم تنتقل هذه الطاقة إلى الحيوان ثم الإنسان عبر سلسلة غذائية منتظمة.
    الوقفة العاشرة: أن أشعة الشمس تطهر الجو من الفطريات والجراثيم المنتشرة فيه.
    الوقفة الحادية عشرة: أن الله جعلها في مكان مقدر بحيث لا تختلف في شروقها وغروبها وكذلك في قربها أو بعدها, إذ يحصل الاحتراق أو التجمد.
    الوقفة الثانية عشرة: أنها سر وجود الطاقة المحركة (النفط) (الفحم الحجري) (الغاز) من خلال النباتات والحيوانات قبل أن تدفن في باطن الأرض وتتحلل وتتخمر.
    الوقفة الثالثة عشرة: أن الشمس هي سر الدورة المائية فبواسطتها يتبخر الماء ثم يتكثف على شكل أمطار, فمنه ما يستقر في البحار والأنهار ومنه ما يستقر في جوف الأرض فيه حياة الإنسان والحيوان والنبات.
    الوقفة الرابعة عشرة: أنها سر هبوب الرياح وذلك نتيجة لاختلاف درجات حرارتها على سطح الأرض مما ينتج عنه فروق في مقدار الضغط الجوي بين منطقة وأخرى.
    الوقفة الخامسة عشرة: استخدام الطاقة الشمسية الحرارية في كثير من أمور الناس لتوليد التيار الكهربائي وتحلية مياه البحار وغير ذلك من منافع الناس ( ).
    فسبحان من أقسم بالشمس فقال وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس: 1]. يقول سيد قطب رحمه الله: ومن شأن هذا القسم أن يخلع على الخلائق قيمة كبرى وأن يوجه إليها القلوب تتملاها، وتتدبر ماذا لها من قيمة وماذا بها من دلالة حتى استحقت أن يقسم بها الجليل العظيم ( ).
    وحين يقف المسلم وقفة المتأمل مع هذه الشمس وحرارة أشعتها وشدة لهيبها يذكر قول مولاه قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81] وحين يتذرع أهل السفر إلى الخارج فرارا من الشمس والصيف والحر، يفر خوفا على جسده الغض إلى بلاد الكفرة الفجرة إلى بلاد الفسق والعري، حيث يبيع دينه ويعرض أهله ونساءه للفتن ليتذكر النار، ليتذكر ذلك اليوم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم: 6] ويقول : «تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم بمقدار ميل فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما، وأشار النبي  بيده إلى فيه» [رواه مسلم].
    فليتذكر أن هذه الشمس وهي تبعد عنه ملايين الكيلومترات وهذا هو حرها فكيف إذا دنت مقدار ميل, فسبحان الله ما أقسى القلوب!
    فإن كنت تحرص على تنعيم بدنك بضعة أيام، فلا تسلم هذه الروح والجسد لحرارة النيران بل، وتذكر القبر.. نعم القبر.. حين تودع في جوف الأرض، فلو كان القبر على ما نراه ونشاهده لكان أمره عجيبا، فكيف بمن يصب عليه العذاب فيه صبا والعياذ بالله. وصدق القائل:
    من كان حين تصيب الشمس جبهته

    أو الغبار يخاف الشين والشعثا

    ويألف الظل كي يبقي بشاشته

    فسوف يسكن يوما راغما جدثا ( )

    وقفات مع الصيف:
    والمحطة الأخيرة ستكون مع وقفات وتأملات في الصيف والحر.
    الوقفة الأولى: جعل سبحانه وتعالى في هذه الدار ما يذكر العباد بدار الغيب المؤجلة الباقية، فمنها ما يذكر بالجنة وكذلك النار فالربيع والأسحار والأجواء الجميلة والطبيعة الخلابة تذكرك بالجنة ونعيمها، وشدة الحرارة والأجواء الملتهبة تذكرك بالنار وحرها، بل إن ما يجد العباد في هذه الدنيا قد يكون له علاقة بذلك ورد في الحديث الصحيح وقوله : «اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء ونفس في الصيف فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير» [متفق عليه]. فنار الدنيا وحر الدنيا يذكران بنار الآخرة نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً [الواقعة: 73].
    الوقفة الثانية: إن كل ما في هذه الدنيا يعطي الإنسان صورة حية ماثلة على ما عند الله من الخير والنعيم، وما يذكر بصفاته العليا وكرمه وفضله ورحمته.. وكذلك ما في هذه الدنيا من نقم وشدة وعذاب يدل على شدة بأسه سبحانه وقوة بطشه وقهره وانتقامه من الظالمين المعتدين.
    الوقفة الثالثة: إن اختلاف الأحوال في الدنيا من حر وبرد وليل ونهار وغير ذلك يدل على سرعة انقضائها وزوالها، فهذا الحر مهما اشتد أواره فإنه سينقضي، وتأتي الأيام الجميلة التي تنسيك هذا الحر، ولكن من كان من أهل النيران والشقاء ترى هل سينقضي ما هو فيه من شقاء وعناء، كيف وقد قيل له «يا أهل النار خلود فلا موت»( ) إلى أن يشاء الله ويخرجه من هذا الجحيم.
    الوقفة الرابعة: قدرة الله سبحانه وتعالى المتمثلة في هذه الأفلاك والأجرام السماوية الهائلة وكيفية تسييرها وسبحها في هذا الكون، فهذه الشمس بمجرد ارتفاعها أو انخفاضها أو تغير مشارقها ومغاربها وبحسب مرروها في بروجها تتغير بإذن الله هذه الأوقات فليل ثم نهار وهكذا ربيع فصيف فخريف فشتاء وكل هذا يجعل العبد المسلم في يقظة وتفكر في خلق الله سبحانه وتعالى.
    الوقفة الخامسة: إن التفكر الحقيقي في هذه الأمور يقود العبد إلى اليقين بما عند الله سبحانه وتعالى في العالم الغيبي، فالأزمان الحارة تجعل العبد المسلم في درجة علم اليقين بل عين اليقين بالنار وحرها وسمومها، والأزمان الباردة وشدة البرد تذكر بزمهرير جهنم.
    الوقفة السادسة: إن الصيف والحر مدرسة للمسلم فمن خلاله يعود نفسه على تحمل المشاق ويربي نفسه على الصعاب، فعندما أرجف المنافقون حين المسير لغزوة تبوك وقد كانت في شدة الحر وحين طابت الزروع والثمار قالوا: "لا تنفروا في الحر" أجالبهم خالق الحل والبرد قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81]، وكذلك حين يتقاعس المسلم عن شهود الجماعات والجمع في شدة الحر يتذكر أجر ذلك؛ بل وهذا الشارع الحكيم بندب إلى تَحَيُّنِ الوقت الذي تبرد أو تنكس فيه الشمس وحرارتها قليلا فيقول : «أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم»، والأجر على قدر المشقة، ويظهر هنا شفقته  على أمته؛ حتى ولو أدى ذلك إلى تأخير الصلاة عن أول وقتها.
    الوقفة السابعة: إن حَرَّ الشمس ولهيب الصيف يُذَكِّرُ العبد بدنو الشمس من رؤوس الخلائق يوم القيامة؛ فهذه الشمس على ما ذكر من بعدها، إلا أنها تكفي أن تصهر ما تحتها؛ فكيف إذا كانت على بعد ميل من الرؤوس؛ فنسأل الله أن يرحمنا وأن يعيذنا من حرها وحر جهنم.
    الوقفة الثامنة: إن في ذلك أكبر عظة وتذكرة لمن لا يستطيع مقاومة الحر؛ أن يجعل بينه وبين عذاب جهنم وسمومها ما يقيه ذلك اليوم؛ من حرها ووهجها، ويتجنب دخول النار.
    الوقفة التاسعة: إن الصبر على طاعة الله والصبر عن معاصي الله في هذه الدنيا أهون بكثير من ذلك اليوم الذي فيه من العذاب والويل والسموم والزقوم والنار وزفيرها؛ بل النيران من تحتهم ومن فوقهم؛ بل هي لباسهم وثيابهم وظلهم حين يكون الموت أمنية الأماني؛ قال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف: 41].
    الوقفة العاشرة: ما كان يفهمه بعض السلف؛ من أن المصابرة والعطش والصيام والمكابدة في هذه الدنيا يبدلهم الله به الأجر العظيم في ذلك اليوم الموعود؛ فمن صام في شدة الحر سقاه الله في دار كرامته؛ فيصومون الأيام الحارة لأيام هي أشد حرا.
    الوقفة الحادية عشرة: إن هذه الظواهر الكونية هي بإرادة الله قبل كل شيء، وليست مجرد نواميس كونية، وقد يكون هناك أسباب ملموسة جناها العباد من ذنوب ومعاص، وهي مقدمات من العذاب ونحو ذلك: ما نرى أو نسمع من أعاصير وزلازل وبراكين ورياح شديدة مدمرة.
    الوقفة الثانية عشرة: إنه رغم ما يمر به الناس من شدة ولأواء إلا أن أهل الخير والطاعات يجدون لذة ومتعة في أعمال الطاعات؛ من صيام وصلاة في شدة الهاجرة لا تعدلها لذة أهل النعيم، وأهل المعاصي على ما هم عليه فيه من ترف ولذائذ إلا أن قلوبهم ضيقة وصدورهم حرجة وحياتهم نكدة، وصدق المولى عز وجل حين قال وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا [طه: 124]؛ بل وصل الأنس ببعضهم إلى أن قال: «إنه ليمر بالقلب أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب». رغم أنه ما زال في هذا الدنيا.
    الوقفة الثالثة عشرة: إن الإنسان المعاصر على ما بلغ من تطور وعلم وتقنية إلا أنه لم يستطع التصدي للكثير من الظواهر الطبيعية، وعندما نجد ما ابتكره الإنسان للحد من الحرارة وشدتها نجد أنه لا يذكر.
    الوقفة الرابعة عشرة: إن نعم الله على العباد كثيرة لا تعد ولا تحصى، وكل ما يبتكره الإنسان مما يعود عليه بالنفع هو من جملة نعم الله؛ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96]؛ فهذا التيار الكهربائي الذي يستخدم في التكييف والتبريد وغيره ينبغي أن يشكر ويصرف فيما يعود على العبد بالنفع؛ لا فيما يعود عليه بالضرر والوبال وتسميم العقول والأفكار وإفساد النشء والجماعات.
    الوقفة الخامسة عشرة: إن نعمة الأمن والاستقرار في المساكن الهادئة والحياة الرغيدة تستوجب الشكر، فكيف بإخوان لنا في العراء يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ما بين شتاء قارس وحر قاتل، فكيف لو سلبت منا هذه النعم بالحروب والفتن وكل ذلك بسبب ما يجنيه العبد من آثام ومعاص؛ فتجعل العزيز ذليلاً والغني معدما، وما نحنا ببعيد عما نراه يحدث على أرض المسلمين من تشرد وقتل وإبادة.
    الوقفة السادسة عشرة: ما أخبر به الصادق المصدوق : أن هذا الحر الشديد الذي لا نطيق لفحاته ولا شيء منها ما هو إلا نفس واحد ولفحة وفيح من جهنم؛ فما بالك بجهنم نفسها؛ قال : «اشتكت النار إلى ربها...». [متفق عليه]، وقد مر بنا الحديث بطوله.
    الوقفة السابعة عشرة: إن هذا الحر ورغم شدته وأواره إلا أنك ترى الناس يسعون في تحصيل أرزاقهم ومعاشهم، ولم يوقفهم ذلك أو يمنعهم من تحصيل الرزق؛ فينبغي أن يحتسب العبد ذلك عند ربه ويصبر.
    الوقفة الثامنة عشرة: إنه رغم ما يشعر به الناس من شدة في هذه الأوقات إلا أنها بعد زمن تصبح مجرد ذكرى، وينسى الإنسان كل ما فيها من نصب وعناء، فيتذكر الإنسان أن هذه الدنيا رغم كل ما فيها من كبد وعناء فإنها ستنقضي بحلوها ومرها والعبرة بمن يفوز في الآخرة.
    الوقفة التاسعة عشرة: إن الإنسان رغم كل الوسائل التي أحدثها لتخفف من هذا الحر، إلا أنه لم ينفك عن التذمر والتشكي؛ مما يدل على ضعفه وقلة حيلته.
    الوقفة العشرون: إن هذا الحر والصيف يُذَكِّرُ بأحوال الفقراء والمعوزين الذين لا يجدون هذه الإمكانات والأجهزة، أو ما يتحملونه من مبالغ لا قِبَلَ لهم بها في سبيل تهيئة الأجواء المناسبة لأهلهم وأطفالهم.
    الوقفة الحادية والعشرون: إن العبد الأريب يقف وقفة تأمل وتعجب مع من يحرص على الفرار من هذا الحر بجميع ما أمكنه من وسائل تكييف وغيرها؛ بل والفرار إلى الأماكن ذات الأجواء المعتدلة، وأسوأ ما في ذلك السفر إلى بلاد الكفرة والعري؛ ولكن هل تذكر هذا الذي فر من الحر كيف يفر من حر ولهيب ذلك اليوم؟! وهل علم أنه لا مفر من ذلك إلا برحمة الله ثم بالعمل الصالح؟! وتذكر أن أهل النار قد حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ: 54]؛ بل حتى الماء؛ ينادون أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ، [الأعراف: 50]، ويسقون ماء ولكن وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ، [محمد: 15].
    الوقفة الثانية والعشرون: إن أحوال الناس تثير العجب والدهشة؛ فهم لا يدخرون جهدا في تنعيم هذه الأجسام بالأطعمة والمشروبات والألبسة والسفر والتنزه؛ فيفرون بأبدانهم إلى ما يسعدها ويطربها؛ ولكنهم نسوا تلك الروح التي هي مدار الحياة وسر الوجود الإنساني؛ فأسعدوا الأبدان التي مردها إلى التراب والديدان، وأهملوا الروح وأوردوها شر الموارد؛ فإنقاذ الروح من العذاب الأخروي - بل وحتى من الضيق والكبد الدنيوي - أولى وأدعى من تنعيم هذا الجسد الذي سيبلى.
    الوقفة الثالثة والعشرون: إن من أطرف ما ترى من أمور بعض الناس حرصه على حماية ممتلكاته من الشمس وحرارتها؛ فيحرص على سيارته وحجارةِ وطلاءِ بيته من الشمس؛ ولكن المسكين لا يرحم نفسه وأهله من نار تلظى تذوب فيها الحجارة والحديد.
    الوقفة الرابعة والعشرون: إن نار الدنيا التي تَوَقَّد ما هي في حقيقتها وتضرمها إلا جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ( )؛ فإن كان المرء منا لا يستطيع أن يواجه أو يقرب من النار؛ بل ولا حتى أشعة الشمس حين تقوم قائمة الظهيرة؛ فهل لي أو لك قدرة على الاصطلاء بنار جهنم حمانا الله وإياك والمؤمنين منها.
    الوقفة الخامسة والعشرون: إن المريض عندما يجد شيئا من أثر المرض يترك لذيذ المطعم وحلو المشرب في سبيل الشفاء أو التخفيف من ذلك الداء؛ فكيف بمن يخبره مولاه سبحانه وتعالى ورسوله  عن النار وما فيها؟! لا يصدق ولا يذعن؛ فكما تتقي حر الصيف فبادر وسارع إلى اتقاء حر ذلك اليوم، وكلما هفت النفس للمعصية ذكرها بلهيب النار.
    الوقفة السادسة والعشرون: أن الإنسان أمام ثلاثة خيارات فيما تقدم؛ إما أن يقول أنه مؤمن ومصدق بما ذكره الله عن ذلك اليوم فيعمل بما يقتضيه هذا الإيمان والتصديق، أو يقول العبد: إنه مكذب. فهذا كافر لا يؤبه له في أي واد هلك؛ ولكن أن يقول: إنه مؤمن مصدق. ويخالف كل ذلك بفعاله وأقواله؛ فهذا أمر عجيب، وأظنه على خطر عظيم.
    وصايا شرعية واجتماعية وصحية:
    وفي ختام هذه الأسطر يجدر بنا أن نقف مع بعض الوصايا الشرعية والاجتماعية والصحية مع مقدم هذا الفصل:
    أولاً: إن ما يحدثه الناس من تذمر وتشكٍ محدود قد لا يكون فيه بأس؛ لأنه أمر جبلي، ولكن ما يسمع من البعض من سب للزمن أو الحر، فهو داخل في سب الدهر المنهي عنه؛ قال : «قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار». [متفق عليه]، والدهر ليس اسمًا من أسماء الله؛ ولكنه – سبحانه - هو صاحب الدهر مدبر الأمور؛ فمن سب الدهر عاد سبُّه إلى رب الدهر.
    ثانيا: ومن الوصايا الشرعية ما يُلمس من بعض المسلمين من تهاون في الصلوات والمشي إلى الجمع والجماعات؛ وخاصة وقت اشتداد الظهيرة وشدة الحر، ولكل هؤلاء نقول: إن كنت تخشون شدة الحر فنار جهنم أشد حرا، وبخطاك نحو المسجد في هذا الحر الشديد تقي نفسك بإذن الله حر يوم الوعيد، ولا تنس أن تحتسب الخطى والمشي إلى بيوت الله، ونسأل الله أن يحرِّم وجوهنا وأبشارنا وأقدامنا على النار، ولا يمنع أن تؤخر صلاة الظهر لحين تهدأ الشمس، والإبراد يكون قريبًا من صلاة العصر؛ وليس كما يظن البعض ساعة أو نحوها؛ إذ إن الشمس يشتد أوارها آنذاك.
    ثالثا: أما فيما يتعلق بالوصية الاجتماعية، فهو حسن المعاشرة مع الناس والأهل؛ خاصة فيما يتعلق بالنظافة الشخصية وتعاهد الملبس والبدن؛ وخاصة عند الجمع والجماعات، وكذلك حسن التعامل؛ فالبعض تسوء تصرفاته ويغلظ كلامه بسبب شدة الحر.
    رابعا: أما الوصية الصحية فكما تقدَّم: أن الحر يساعد على تحلل الفضلات والأخلاط الرديئة في الجسم، ويكثر الجسم من إفراز العرق؛ فيفرز الجسم حرارته إلى الخارج، ويبرد داخله ولذا يتعذر على المعدة أن تهضم الأطعمة الغليظة التي كانت تهضمها في فصل الشتاء؛ فلذا يوصي أهل الطب بتجنب الأطعمة والأشربة الحارة، وكذلك الأطعمة الدسمة، مع تفضيل الأشربة ذات البرودة المعتدلة، وكذلك تجنب التعرض للشمس مباشرة؛ وخاصة وقت الظهيرة؛ بل حتى إن الصلاة تؤخَّر عن وقتها الفاضل؛ تجنُّبًا لضربات الشمس ونحوها.
    فنسأل الله أن يجنبنا وإخواننا المسلمين نار جهنم، وأن يحرِّمَ على وجوههنا ووجوه والدينا وإخواننا وأحبابنا النار؛ لظاها وسمومها، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار ( ).
    سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.


    كتبه الفقير إلى عفو مولاه
    طلال بن عيسى الفضيخ
    الجبيل، كلية الملك فهد البحرية
    صفر 1424هـ



    الفهرس

    المقدمة 5
    وقفة تأمل وتدبر: 7
    الفصول الأربعة: 10
    الصيف والشمس: 12
    ابن القيم وأسرار الشمس: 13
    الشمس ولغة الأرقام: 14
    وقفات مع الصيف: 20
    وصايا شرعية واجتماعية وصحية: 28
    الفهرس 31



      مواضيع مماثلة

      -

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة أبريل 19, 2024 9:28 am